الأربعاء، 3 يناير 2007

قصص قصيرة من المجر

قصص قصيرة من المجر






نشرت القصة فى عام 1944
فى القطار
قصة محمود البدوى

مررت ببخارست وأنا فى طريقى إلى سينايا .. أجمل المدائن الرومانية على الاطلاق ، وعدت إليها وأنا عائد من جورجو على الدانوب .. فبت فيها ليلة واحدة ، فى فندق متواضع يقرب من محطة الشمال ، وقمت مبكرا لأطوف بالمدينة قبل رحيلى عنها .. فمن العسير على المرء أن يمر بباريس الصغرى ، ولا يشاهدها مرة ومرات ، رغم جوها الحار فى الصيف .

ولما أقبل المساء ، كنت فى طريقى إلى المحطة ، لآخذ القطار إلى كونستنزا .. وكنت قد حجزت لى مقعدا ، ولهذا بلغت المحطة قبل قيام القطار بدقائق قليلة ، وكانت معى حقيبة واحدة ، أما باقى الحقائب فقد خلفتها عند صديق لى فى كارمن سيلفيا .. ولما أخذت مكانى فى القطار ، راعنى أن صاحب المكان المقابل لى يملأ الديوان بحقيبة ضخمة مكتظة .. فتصورته تاجرا من تجار الفراء ، أو مهراجا فى طريقه إلى الهند .

وعندما دق جرس القطار مؤذنا بالرحيل .. كان خادم العربة يفتح الديوان ، وينحنى مفسحا الطريق لسيدة فى لباس أسود ، وقبعة طويلة تكاد تحجب عنى بريق عينيها النجلاوين .. وملت إلى الوراء وشغلت نفسى بالنظر من النافذة إلى المحطة الجميلة ، وهى غاصة بالمسافرين إلى مختلف الجهات .. وإلى حركة القطارات فيها .. وعندما تحولت عن النافذة ، كانت السيدة التى ترافقنى فى السفر ، مضطجعة فى ركن من الديوان ، وقد فتحت كتابا .. ورفعت بصرى إليها ، ورأيت وجهها الدقيق وملامحها الساكنة ، والسواد الشديد الذى يبدو من عينيها ، وأدركت أنها رومانية أو بلغارية أو تركية ، فهذا الوجه بملامحه وسماته الشرقية ، لاتراه إلا فى هاتيك البلاد ..

وتحرك القطار ، وخلف وراءه تلك المدينة الساحرة تتلألأ بالنور ، وتدفق بالحياة .. وخفق قلبى .. فأنا أحمل لهذه المدينة فى أعماق نفسى أطيب الذكر .. وعلى الرغم من أننى مررت عليها أكثر من مرة ، ومكثت فيها أكثر من عام ، فما من مرة زرتها إلا وجدت فيها سحرا جديدا ، ولونا جديدا من ألوان الحياة ، فيه كل ما يسر النفس ويثلج الفؤاد ..

ولقد زرتها فى أول مرة ، وأنا فى حالة موئسة من التعاسة وخيبة الأمل ، فما رأيتها ، ورأيت ما فيها من جمال .. حتى غمرنى السرور ، وتفتحت نفسى لمباهج الحياة من جديد .. ولهذا شعرت ، عندما تحرك القطار ، بالأسى الذى يغمر النفس ، ويكرب الصدر ، ويبعث الحزن فى الفؤاد .. هل أعود إلى هذه البلاد ، وهذه المدينة ؟ .. هذا ما أرجوه من الله ، وأتمناه لنفسى ..

ملت عن النافذة ، وأغلقت عينى .. هل غفوت ؟ .. لا أدرى .. والنوم لايليق فى هذه الساعة ، وفى رفقة سيدة جميلة ..

أرسلت بصرى إلى السماء الزرقاء .. والقطار ينطلق كالسهم فى وادى الدانوب ، وقد سكنت حركة المسافرين ، وانقطعت أصواتهم .. ونظرت إلى هذه السيدة من جديد ، وبدا لى أنها نظرت إلىّ ، وملأت عينيها منى ، وأنا فى سباتى .. وكونت لنفسها فكرة عنى .. فكرة ما .. فما أسد نظر المرأة .. وعندما جاء مفتش التذاكر ، وحدثنى بالرومانية وجاوبته بالفرنسية التى لايعرفها ، ابتسمت السيدة ابتسامة خفيفة ولكنها لم تحاول انقاذى أو انقاذه ! فتركتنا فى ارتباكنا .. وانسحب الرجل ، وقد رأى أن ذلك خير ما يعمله ..! ولا زلت إلى هذه الساعة أجهل ما كان يريده .

وأشعلت المصباح الكهربائى الذى بجوارى ، وفتحت كتابا معى ، وكنت أرفع نظرى عن الكتاب إلى رفيقتى فى السفر ، بين حين وحين ..

وكان النور الهادىء قد زاد وجهها تألقا وفتنة .. وجعلنى أنجذب بكليتى نحوها .. يا الله .. إن حياتى كلها أسفار .. ولكم رأيت وجوه .. نساء من كل جنس ولون .. ولكن لم أشاهد وجها كهذا الوجه ، فى سكون ملامحه ، وروعة حسنه .. هل أبدأ بالحديث ؟ .. لا .. إن تجاربى علمتنى غير ذلك .. فالرجل الذى يفاجىء المرأة بالحديث ، دون مناسبة ، يسقط فى نظرها ، ويجعلها تدل عليه وتزهو .. ومع كل ، فما كنت رجل أحلام .. فما الذى أوده من مسافرة فى طريقها إلى زوجها أو بيتها أو مصيفها .. خمس ساعات فى القطار ، ثم يمضى كل لوجهه .. وما أكثر الوجوه التى نلتقى بها عرضا ، ثم تفترق إلى الأبد .. هل يمكن أن أكون أهدأ أعصابا ، وأنعم بالا ، لو كنت مسافرا فى الديوان وحدى ؟ .. ربما .. فأنا وحيد على الباخرة .. ووحيد فى القطار .. ووحيد فى الفندق .. بيد أن ذكريات قلبى جميعا تنشأ من هذه الوحدة .. وهل يمكن أن يظل رجل وامرأة فى سفر طويل كهذا دون أن يتحادثا ؟ّ..

تراجعت إلى الوراء ، وطويت الكتاب .. وكانت سحب الصيف الخفيفة قد انتشرت فى رقعة السماء ، وبدا القمر من خلالها يتسحب ، ووادى الدانوب مخضر بالزرع ، يانع بالنبت ، يزهو ويميد !

كانت الطبيعة سافرة فى أروع صورها .. وكان القطار يطوى المدائن الصغيرة ، والقرى المزهرة على ضفاف النهر ، بمنازلها البيضاء الصغيرة ، وسقوفها المحدودبة ، وكنت أرى على ضوء القمر ، عند سفوح بعض التلال البعيدة ، قطعانا من البقر وحولها الفرسان بملابسهم الوطنية الزاهية .. ثم يمضى القطار ويطوى هذه المناظر طيا ! انثنيت عن النافذة وأنا اتنهد .. أسفت على هذه المناظر الجميلة التى أطويها من صفحة حياتى ، وقد لا أراها مرة أخرى ، وقد تنمحى صورتها من ذهنى .. من يدرى ؟..

كانت رفيقتى فى السفر قد استراحت فى ركن من العربة ، وأغلقت عينيها ..

رأيت هذه الأهداب الوطف ، تسبل على هاتين العينين الساجيتين .. وهذا الأنف الدقيق ، يتنفس فى هدوء .. وهذا الشعر الغزير الفحم ينسدل على الجبين .. وهذا الجسم الممشوق يسترخى ، ويستقبل نسمات المساء اللينة فى كسل ظاهر .. كانت قد تركت جسمها يتمدد على حريته ، وحد طاقته .. دون أن تقيد نفسها بوجودى .. وكان القمر كلما تخلص من السحاب ، أراق ضوءه الفضى على وجهها ، فضرج وجناته ، وعلى شعرها فذهب حواشيه !

وخفت سرعة القطار .. وأخذت السيدة تتحرك .. حركت ساقيها ، ومالت بجسمها إلى الخلف ، ووقف القطار على احدى المحطات فسألتنى :
ـ أهذه ت ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. لا أعرف .. أنا غريب عن هذه البلاد

وكأنها أدركت حالها فزمت شفتيها .. ربما كانت تحلم ، وفتحت عينيها ، وهى تحسبنى زوجها أو رفيقها .. فلما أدركت أنها فى القطار وفى رفقة رجل غريب ، عادت إلى صمتها .

وكان القطار قد تحرك ، وعاد السهوم إلى وجهها ، فقلت وقد أردت أن أزيل عن ذهنها ما كانت تفكر فيه :
ـ كل المحطات صغيرة ومتشابهة ..
فمدت رأسها إلى الأمام قليلا ، وقالت :
ـ أجل .. ولكنها جميلة ..

ثم سألت وهى تشير إلى النافذة :
ـ هل عشت فى بعض هذه القرى الصغيرة على الدانوب ؟.. انها آية من آيات الجمال .. لقد مضيت هناك شهرا كاملا ..
ـ لم أحظ بهذا النعيم بعد .. ولكننى أفكر فى ذلك ..
ـ هل ستعود إلى هذه البلاد مرة أخرى ؟..
ـ بالطبع .. كلما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ـ وهل أنت فى طريقك إلى الآستانة ؟..
ـ إلى أبعد من ذلك ..
ـ إلى أين .. ؟
ـ إلى القاهرة ..
ـ فكرت فى هذا ..
ـ كيف ؟..
ـ من هناك يجىء أمثالك من الرجال .. صمت .. وحزن .. وهدوء الصحراء ..
ـ هذا حق ..
ـ هل أنت ذاهبة إلى كونستنزا ؟..
ـ أجل .. لبضعة أيام .. اعتدت على ذلك فى الصيف من كل عام ..
ـ وقادمة من بودابست ؟..
ـ أجل من بودابست ..

وأضافت :
ـ كنت أشاهد معرضها للصور ..
ونظرت إليها نظرة طويلة !

فسألتنى :
ـ لماذا تنظر إلىّ هكذا ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. لا أستطيع أن أجيب .. فقد يكون فى جوابى بعض القحة ..

فأخذت تضحك ولانت ملامح وجهها جدا ، ورأيت على وجهها شعور الإيناس ، وفى عينيها السرور المحض

ـ هل شاهدت الشرق ..؟
ـ أبدا .. أود ذلك ..
ـ هل قرأت كثيرا عن الشرق ..؟
ـ أجل .. قرأت كثيرا .. قرأت تاريخ العرب ..
ـ كان العرب عظماء فى حياتهم ومماتهم .. وقد حرمنا فى كثير من الأوقات حتى من لذة الذكرى .. وفى هذا بعض الشجن ..
ـ هذا صحيح ..
ـ هل يضايقك تيار الهواء ..؟
ـ أبدا دعنى أملأ رئتى من نسيم الليل ..
ـ إن السفر عندى هو خير متع المسافر ..
ـ هل سافرت كثيرا ..؟
ـ رأيت نصف العالم تقريبا ..
ـ وتود أن ترى نصفه الآخر ..؟
ـ لا .. لا .. لقد اكتفيت بما رأيت .. نفس الوجوه .. نفس المشاعر .. ونفس الحماقات .. فى كل مكان .. واعذرينى إذا قلت ونفس النساء أيضا ..
ـ تكلم كما تحب ..!
ـ هل قرأت شيئا جديدا فى التاريخ ..؟
ـ أبدا .. كل شىء يتكرر ، فقط تتضخم الصور ..
ـ آسف لقد أثقلت عليك .. هل تشعرين بجوع ! هل تسمحين بأن تتناولى معى قليلا من الجعة ..؟
ـ أشكرك لا أشعر بجوع ..!
ـ ولكنك عطشى .. ولن أتركك وحدك .. لابد من مرافقتى !

فضحكت ، ونهضت معى إلى عربة الطعام .. وكانت خالية إلا من بعض المسافرين ، تناثروا فى أركانها ..

ـ لن تشاهد فى هذه العربات أناسا بلباس السهرة ، كما تشاهد فى بعض البلاد الأخرى .. ليس من بين هؤلاء الناس من يضيع عمره فى حياة متكلفة بغيضة .. كلها مظاهر كاذبة !

وعلى الرغم من أننى كنت قد تعشيت فى بخارست ، فإنى أكلت .. وأكلت كثيرا .. وأكلت السيدة أيضا ، وشربت من الجعة .. أكثر مما شربت ! وتضرجت وجنتاها ، وازداد احمرار شفتيها ..
ولما عدنا إلى مكاننا من الديوان كنا أصدقاء ..

***

وبلغ القطار كونستنزا مع الصبح ، وكنت أود أن أنزل فيها ، ولكن السيدة أشارت علىّ بالنزول فى فندق هادىء فى ايفوريا فقبلت مشورتها .. وبقينا فى العربة التى ستلحق بقطار آخر يسافر إلى ايفوريا بعد دقائق قليلة ..

وبلغنا ايفوريا والشمس ترسل أول أشعتها الصفراء على تلك المدينة الصغيرة المتألقة على ساحل البحر .. ونزلنا فى الفندق ، وكانت غرفتى مجاورة لغرفتها ..

ونمت واستيقظت قبل الظهر .. ووجدتها جالسة فى شرفة الفندق الكبيرة ..
وابتدرتها بسؤالى :
ـ أنمت ..؟
ـ بعض الوقت .. فأنا لا أحب النوم فى النهار مطلقا ..

ونهضنا لنتغدى على مائدة صغيرة تطل على البحر .. وليس فى فنادق الدنيا جمعاء ، فندق يماثل هذا الفندق فى جماله وروعته .. فهو يقوم على هضبة عالية ، ويطل من جهاته الثلاث على البحر ، وتشرف جهته الرابعة على بروج ايفوريا الخضراء ، وحدائقها الناضرة ، فلا تطل منه فى أى ساعة من ساعات النهار إلا على أبدع منظر .. فإذا ما أسدل الليل أستاره ، خلته سفينة ضخمة عائمة فى المحيط ، وقد أحاط بها الجمال من كل جانب ..

وفى الأصيل نزلنا من الفندق إلى سيف البحر .. وكانت الشمس ترقص على صفحة الماء .. وبدت الطبيعة فى أحسن حللها ، وأبدع مناظرها ..
ـ هل تستحمين ..؟
فرفعت إلىّ وجها لونه الخفر ، وقالت :
ـ كنت أحب ذلك فى طفولتى .. أما الآن فأنا أرهب البحر .. أحب أن أشاهده من بعيد ..
ـ ولكنك ستستحمين يوما ما ..
ـ ربما .. ولكن ليس اليوم ..

وانحدرت الشمس ، وغاب قرصها فى الماء .. وبدت الزوارق الشراعية الصغيرة تتجه نحو الشاطىء .. وأخذ المستحمون يخرجون من البحر .. وغصت طرق ايفوريا بهم .. واتخذوا طريقهم إلى الفيلات الصغيرة المتناثرة فى رقعة الهضبة ..

ولما هبط الظلام ، صعدت مع السيدة إلى الفندق ..

***

كان الليل فى هزيعه الأول ، والريح رخاء والهواء منعشا .. وكان الظلام سادلا أستاره ، والقمر لم يطلع بعد .. وكان البحر على مدى أذرع قليلة منا ، هادىء الصفحة ، مصقول الأديم ..

وجلست بجوارها على كرسى طويل ، فى الشرفة الكبيرة التى تدور بالجوانب الثلاثة المشرفة على البحر .. وكان هناك بعض النزلاء جالسين عن قرب منا .. ولكنا لم نكن نسمع لهم حسا .. كان كل شىء يبعث على السكون والتأمل ، ويفتح آفاق النفس .. ونظرت إليها فإذا نظرها عالق بالبحر .. وقد علاها بعض السهوم .. لعلها كانت تسترجع الساعات التى دفعت بها إلى هذا المكان دفعا .. لقد مضى كل شىء سريعا ، ولم يستطع واحد منا أن يفترق عن الآخر ..

لقد كانت جالسة لأول مرة ، فى أول فندق نزلنا فيه بعد رحلة القطار ، وكأنها تجالس انسانا عرفته منذ فجر حياتها .. لقد أصبحنا بين عشية وضحاها عاشقين متيمين ..

وتعشينا عشاء خفيفا .. وشربت كثيرا ، وتمشينا قليلا فى الشرفة .. ثم سرت معها إلى باب غرفتها .. وشددت على يدها فى حرارة ..

***

واضطجعت على السرير ، ونظرى مسدد إلى الباب الذى يفصل غرفتى عن غرفتها .. كان هذا الباب موصدا .. وكانت غرفتها لاتزال مضيئة ، فهى لم تنم بعد .. ولعلها تطالع قبل نومها .. تناولت مجلة مصورة ، وأخذت أقلب البصر فيها .. ولكن نظرى كان يعود بين الفينة والفينة ، ويستقر على الباب .. وطويت الصحيفة ، ووضعت يدى على رأسى .. ونظرت إلى الساعة فى يدى .. لقد أزفت الساعة الأولى بعد منتصف الليل .. فهل يمكن أن تظل ساهرة هكذا إلى الصباح ؟! ما الذى تفكر فيه الآن ؟ هل كانت حماقة أن أطلب لكل واحد منا غرفة مستقلة ؟! ..

ونزلت من فوق السرير ، وأخذت أتمشى فى أرض الغرفة ، وأنا حافى القدمين ! وكنت أمر على الباب وأكاد التصق به .. ووضعت أذنى عليه وتسمعت .. لم أسمع حسا ولا حركة ، انها مستغرقة فى النوم .. ودارت يدى حول الباب فى الظلام .. وكنت قد أطفأت النور .. فوجدت مزلاجا من ناحيتى فأزحته .. وعالجت الأكرة فانفرج الباب قليلا .. فأعدت اغلاقه بهدوء .. وتراجعت إلى الوراء ، وقلبى يزداد خفقاته ، وتشتد ضرباته .. واتجهت إلى السرير .. هل أنام ؟.. وهلا تعد حماقة منى أن أدع هذا الجمال يفلت من يدى .. وربما إلى الأبد !..

ومشيت إلى النافذة ، والليل قد نشر غياهبه ، والبحر من تحتى يرغى ويزبد .. وعوت الرياح .. وتحركت الستر على النوافذ .. وتطلعت إلى السماء .. إلى أسرار الليل .. وأسرار النجوم البراقة ، فى الليل الموحش ، وأخذت أتأمل وأفكر .. هل أظل هكذا مضعضع الحواس ، مضطرب القلب ، قلق النفس ، حائر الفؤاد ؟.. وهى على أذرع قليلة منى ، وفى ملك يدى !.. وما من قوة ستجعلها ترفض .. وما من شىء سيجعلها تقول لا .. لماذا لاتفكر هى فيما أفكر فيه الآن .. ما أشقى الإنسان ، وما أشد عذابه !..

تطلعت إلى السماء .. ونظرت إلى الماء .. وكان الظلام ناشرا أستاره .. وكانت هناك سفن تعبر البحر الأسود .. وأنوارها تتراقص على الماء .. وكان الخليج الذى يقوم عليه الفندق قد اشتد موجه وصفق .. وعادت الطبيعة تزمجر كأننا فى الشتاء .. ولذ لى المنظر وأخذ بلبى ومجامع قلبى .. فأنا أحب السكون فى كل شىء إلا فى الطبيعة ، التى لا تبدو على فتنتها إلا وهى صاخبة ثائرة ..

ولقد انثنيت عن النافذة ، وأنا أفكر فى هذه الفتاة .. وعدت إلى السرير ، وأنا لا أزال محيرا ملتاعا .. وبعد طول عذاب وتفكير ، رددت نفسى عن غيها ، وأخذنى النعاس ..

***

ونهضت من فراشى قبل أن تطلع الشمس .. وجاءت لى الوصيفة بالقهوة ، وحييتها تحية الصباح ، وسألتها :
ـ هل صحت الماظ هانم ..؟
ـ صحت ..! وهل نامت حتى تصحو ؟.. إنها ساهرة طول الليل ترسم ..
ـ ترسم ..؟
ـ أجل .. تعال إلى هنا وانظر ..

وتقدمت نحو النافذة المطلة على البحر .. ورأيت الماظ هانم ، جالسة ومكبة على لوحة كبيرة ، وكان ظهرها إلينا ووجهها إلى الخليج .. وكانت ترسم فى استغراق وسكون .. وترفع بصرها ، ثم ترتد به إلى اللوحة ، وفرشاتها تتحرك بين أناملها الرقيقة .. ما أجملها فى جلستها هذه .. وما أروع ما يحيط بها من مناظر ..

لقد أدركت الآن لماذا كانت ساهرة طول الليل ، ولماذا تسافر ومعها هذه الحقيبة الضخمة .. إنها ترسم فى كل مكان تنزل فيه ، وحقيبتها ملآى بمثل هذه اللوحات .. قد تكون فقيرة ووحيدة تعيش من هذا العمل ، ولكنها غنية بفنها ..

نقرت على زجاج النافذة فسمعتنى ، وتلفتت فرأتنى .. فاحمر وجهها قليلا وقالت :
ـ صحوت ..؟
ـ منذ مدة .. ولى ساعة وأنا أنظر إليك من هذا المكان ..
ـ ولم أحس بك !..
ـ أجل ..
ـ تلك مصيبة الفن على الحواس .. تعال وانظر .. إنى أرسمك ..!

وذهبت إليها ، وجلست بجوارها .. وكانت ترسم طلوع الفجر على الخليج ، ومن ورائه الربى والمروج .. وكان المنظر فى بدايته ، ولكنه كان يشعر الناظر ببراعة اليد التى رسمته ..

فقلت لها ، وأنا أنظر إلى أناملها الدقيقة :
ـ أهنئك .. إن هذا رائع ..
ـ اشكرك .. الروعة فى هذا الجمال الذى تراه حولك ..
ـ لابد أنك رسمت كثيرا من مناظر البسفور ، ما دمت شغوفة بجمال الطبيعة إلى هذا الحد ..
ـ البسفور .. هذا سحر آخر .. ولقد عشت بين رياضه .. وأنا أرسم مناظره فى كل مكان ، لأنها منقوشة فى ذاكرتى .. وقد بعت لوحتين فى بودابست أثناء رحلتى هذه .. وسأريك بعض ما بقى فى الحقيبة ..
ـ إن من لايرى البسفور لايرى الجنة ..
ـ هذا أحسن اطراء سمعته ..
ـ أنا أقول الحقيقة .. بل وأقل من الحقيقة ، وما رأيت منظرا يأخذ بلب المسافر كالبسفور .. وأتمنى على الله أن ينتهى بى المطاف إلى هناك .. وهناك أقيم إلى نهاية حياتى ، وهناك أرقد .. وليكن آخر منظر أراه هو قباب أيا صوفيا ، وهى تدور مع الشمس ..
ـ ها هى الشمس قد طلعت .. فاذهب إلى الشاطىء قبل أن يزدحم بالمصيفين .. وعندما تعود ، سأكون قد ارتديت ملابس الخروج ، وسنذهب إلى كونستنزا ..
ـ ألا تنزلين معى إلى البحر ..؟
ـ ليس الآن .. أنا متعبة جدا .. وسأستحم معك فى الأصيل ..
وقبلت يدها ونزلت إلى الشاطىء ..

***

وذهبنا إلى كونستنزا ، ورجعنا إلى الفندق بعد الظهر فتغدينا .. وتركتها لتستريح ، فقد كان النوم يداعب أجفانها .. وأيقظتها قبل الغروب بقليل .. وكانت لاتزال تشعر بتعب ، ولم تأخذ قسطها من النوم .. ونزلنا إلى البحر ، وطلعنا منه بعد أن هبط الغسق ..

ولاحظت على العشاء أن وجهها شاحب قليلا .. فأمسكت بيدها ، فإذا بها شديدة البرودة .. وجلسنا بعد العشاء نستمع للموسيقى ، وكانت هناك فرقة رباعية من فينا .. وكانت تستمع فى سكون ، ووجهها لايزال شاحبا ، ومن عينيها يبدو التعب الشديد ، فقلت لها :

ـ يجب أن تستريحى يا الماظ ..
فحولت وجهها إلىّ ، وقالت فى هدوء :
ـ أجل يا مراد .. فأنا أشعر ببرودة شديدة ..

واعتمدت على ساعدى ، ومشينا إلى غرفتها .. وفى منتصف الطريق لم تقو على السير .. وسقطت بين ذراعى ، وحملتها إلى سريرها .. وجاءت إلزا ورفيقتها لندا ، الوصيفتان فى هذا الجناح من الفندق .. وتركتهما معها ليغيرا ملابسها .. وعدت إليها بعد قليل .. وطلبت من إلزا أن تتصل بأى طبيب فى المدينة .. فسمعتنى ألماظ وأشارت إلىّ بيدها ، فاقتربت منها ، ووضعت وجهى على الفراش .. وهمست فى صوت متقطع :
ـ إننى بخير .. وقد مرت النوبة .. بسلام ..

وبقيت بجوارها ، وأنا شاعر بتعاسة مرة .. فأنا الذى حببت لها الاستحمام فى تلك الساعة .. وهى منهوكة القوى ، بعد سهر الليل بطوله فأثر ذلك على قلبها ..

وظلت ساهرة .. وبعد منتصف الليل نامت .. وأخذت أنظر إلى وجهها وهى تتنفس فى هدوء .. وإلى جسمها وقد لف فى الأغطية ..

فى الليلة الماضية .. تحت تأثير الخمر وتعب الأعصاب من السفر الطويل .. وتحت تأثير كل ما طاف فى رأسى من فكر .. ودار من هواجس .. اشتهيت هذا الجسم .. وتمنيت أن يكون لى ساعة من الزمان .. وهو الآن فى متناول يدى .. وأراه بجميع تقاطيعه وكل محاسنة .. وأضع يدى على صدرها ، وألمس ذراعها العارية ، وأنا أضم إليها الأغطية ، وأعطيها بعض المقويات .. ومع كل ذلك فشعورى الليلة غير شعورى بالأمس .. فقد سكنت ثورة العاصفة التى كانت تشتعل فى جسمى فى الليلة الماضية .. ولازمنى الليلة إحساس جديد ، فيه روحانية جارفة .. ألأنها مريضة ؟.. ألأنى أدركت سمو نفسها ؟.. ألأن صلتى بها قد توثقت واشتدت عن ذى قبل ؟ لم أكن أدرى ..

***

فتحت عينيها فى الثلث الأخير من الليل ، فرأت أنى ما زلت ساهرا ..

فقالت وهى ترتفع بجسمها قليلا :
ـ ألا تزال ساهرا ؟.. يكفيك إلى هذه الساعة ، واسترح الآن ..
ـ لن أدعك وحدك ..
ـ لن تتركنى وحدى ؟!..
ـ أبدا ..
ـ أبدا .. ؟

وأخذت أمسح بيدى على جبينها ، وألمس شعرها ، فنظرت إلىّ نظرة متكسرة فيها كل إحساسات قلبها ، وقالت وهى تحرك أناملها :
ـ أعطنى هذا المشط .. وافتح الدرج الذى تحته ، وستجد صورة مغلفة فهاتها ..

وفتحت الدرج ، وتناولت المشط .. ورجلت شعرها .. وفضت غلاف الصورة وهى تبتسم .. كانت صورتى وأنا فى القطار ..

نظرت إلى الصورة ، وأغمضت عينى .. شعرت بسعادة لاحد لها ، وخيل إلىّ أننى أسبح فى طبقات الأثير ..

وسمعتها تقول :
ـ هل استطعت أن أرسم عينيك .. وهما تلتهمان الكتاب ، وتغفلان عنى ..!

وضحكت ، وتناولت يدها .. فغمغمت :
ـ لن أدعك تتعذب ليلة أخرى .. فقد أحسست بك أمس .. وأنت تدور فى غرفتك !..

وشعرت بالخجل ، فنظرت إلىّ فى رقة وأضافت :
وسنذهب فى الصباح إلى كارمن سلفيا .. وسنعيش هناك إلى نهاية الصيف .. وسأطلق الرسم ما دمت معك .. وسنرجع إلى استانبول .. وسترى البسفور مرة أخرى وأنت معى .. وسنعيش فى هذا الفردوس إلى نهاية حياتنا ..

================================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الذئاب الجائعة " فى عام1944
================================



الغجرى

قصة محمود البدوى


فى سنة 1934 ركبت البحر إلى أوربا .. وكان فى السفينة أجناس مختلفة من البشر .. تلاقوا فى صفاء ومودة .. فلم تكن هناك حروب ..

وكان الناس قد نسوا ويلات حرب 1914 لطول ما مر عليها من زمن .. ولم تكن السفينة مزدحمة بالركاب .. رغم أننا أقلعنا فى فصل الصيف .. وهو الفصل الذى يهرع فيه الناس إلى أوربا ..

وكان الكساد والرخص يعمان العالم كله .. وكل إنسان فى جيبه القليل من الجنيهات يستطيع أن يسافر كما سافرت .. ورغم ذلك الرخص فإن السفينة لم تكن مكتظه .. وهذا ما جعل المسافر على ظهرها يشعر بالراحة والمتعة .. فالزحام لايريح أحدا ..

ولكن فى مدينة " بيريه " فوجئنا بفوج من السياح ينـزل إلى السفينة قبل ساعة الاقلاع .. وكان معظم أفراده من المصريين فى طريقهم إلى الدانوب ، جمعتهم شركة سياحية على هذا النحو .. وبعد أن قضوا أياما فى اليونان ركبوا هذه السفينة .

ولم أكن بطبعى أحب هذه الأفواج ، ولا أسافر فى ركبها .. ولكنهم ركبوا السفينة ، ولم يركبوا القطار فكيف ابتعد عنهم ..

واستلفت نظرى شاب على رأس الفوج .. ضخم الجسم قمحى اللون .. حاد النظرات .. يعنى بهندامه .. وينادونه بالأستاذ " شكرى "

وكان " شكرى " هذا يحمل آلة تصوير ، ولا يفتأ يصور ويصور .. ومن وقفته الطويلة حول جموع الركاب لاحظت أنه كثير الفضول ومتسلط .. وكانت زوجته مصرية وسمعت اسمها " الهام " .. وكانت شابة نحيفة القوام بيضاء جميلة .. بل آية من آيات الجمال .. وتبدو وادعة وحزينة .. وكنت أغفر له فضوله .. ما دامت تقف بجواره ، وتحاول أن تخفف برقتها من وقع كلماته الغليظة وتسلطه .

وكان يرافقهما كأصحاب ، زوجان أجنبيان ، لاعلاقة لهما بالفوج ولكنهما التقيا بشكرى وزوجه فى ربوع اليونان فتصاحبا .. كرفقة سفر .. وهما من فنلندا والزوج والزوجة حسن ونادية .. الاثنان يدرسان فى جامعة واحدة بفنلندا .

وعندما دخلت السفينة حدود تركيا .. تعرفت على الشاب الفنلندى " حسن " وسرنى أنه يعشق الأدب وله اطلاع واسع .. وكان هو وزوجه فى نفس الطابق من السفينة الذى يقيم فيه شكرى والهام .. وفى كمرتين متجاورتين ..

وقد نشأت علاقة قوية بين الزوجة المصرية والزوجة الفنلندية .. حتى اننى كنت أشاهدهما معا ، فى كل خطوة أخطوها على ظهر السفينة ، أو فى ممراتها الداخلية والجانبية .. وقد عللت ذلك لجمال المصرية ورقتها .. واتقانها اللغة الفرنسية .. وأن السيدة الفنلندية لم تقع فى الفوج كله على من هو أنضر منها وجها .. وأطيب عشرة .. وعلى من يحدثها عن مصر والشرق بوضوح .. وفى ثقافة واسعة مثل هذه الزوجة .

وفى صباح مبكر ، وقبل الافطار وجدتهما متجاورين ، وتستندان الى الحاجز ، وعيونهما الى البحر ..

ولاحظت بعد النظرة المتأنية .. أن السيدة المصرية تكفكف عبراتها .. والفنلندية تخفف عنها الأمر ، بوضع ذراعها كله على كتفها ، كأنها تود احتضانها ..

وتكرر مشهد الدموع فى عين " الهام " ولأن وجهها فى جملته يعبر عن الحزن ، فقد رددت ذلك إلى كونها فقدت عزيزا عليها منذ زمن قصير .. ولهذا خرج بها زوجها الى هذه الرحلة لتنسى .

وقد جعلتنى الدموع التى كنت أراها فى عينيها كل صباح ، أشفق عليها ، وأحاول أن اقترب من زوجها " شكرى " لأعرف حقيقتها .. ولكنه كان فى طباعه منفرا ولايشجع أحدا على الاقتراب .

وكان يعنى بهندامه وزينته مع أننا فى سفينة ، والأمر لايحتاج لكل هذا التبختر .. ويلوك الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية .. بمناسبة وغير مناسبة ، كأنه مرشد سياحة .

***

وكان البحر هادىء الموج والريح طيبة فخرج الركاب من الكباين إلى الشرفات والظهر ، وجلسوا على الكراسى الطويلة والدكك .. وعلى لفات الحبال ، وناموا على أطواق النجاة التى تستعمل فى حالة الطوارىء .

ولم يفكر أحد فى العاصفة ولا فى مخـاطر البحر .. وكان الأستاذ " شكرى " يقف وسط حلقات المسافرين متحدثا ، وراسما الخطط للرحلة ، وحوله بعض من يعرفهم من اليهود المصريين والأجانب .. وكان يتردد على محلاتهم فى قلب العاصمة ، ويعرفهم بأسمائهم .. وكانوا يسألونه عن الدردنيل والبسفور وجامع أيا صوفيا ويمازحونه ، وهم يعرفون طباعه من مغالاته فى الوصف ، وكان الجو كله يخيم عليه الحب ، لأن العداء الذى سببته الحروب لم يكن فى قلب مخلوق يسعى لخير البشرية جمعاء .

وكان علينا أن نمضى يومين آخرين فى البحر ، لنصل إلى استانبول .. التى سنمكث فيها ثلاثة أيام متصلة .. لتفرغ السفينة بعض شحناتها التى كانت فى الباطن وتمتلىء بغيرها .. وبعدها نقلع إلى البحر الأسود .. إلى كونستنـزا وهى نهاية خط السفينة .

وكان يطيب لنا أنا والشاب الفنلندى " حسن " أن نستمتع بمنظر الغروب فى البحر ، وكانت زوجته مشغولة بصديقتها المصرية " الهام " وتقضى معها معظم الوقت .

وفى جلسة فى مقدمة السفينة سألنى " حسن " .
ـ هل تعرف السيدة الهام ..؟
ـ أبدا .. والتقيت بها لأول مرة معكما ..
ـ ولازوجها شكرى ..؟
ـ ولا زوجها شكرى ..
ـ لماذا تبدو حزينة وفى عينيها الدموع ..
ـ سألت نفسى هذا السؤال .. ولم أهتد إلى جواب ..
ـ حاولت أن أعرف السبب من زوجتى الملازمة لها فلم أعرف .. يبدو لى أنه يضربها لأنه لايملك أعصابه حتى وهو يتحدث مع الغرباء ..
ـ أبدا لاتفكر فى هذا .. وما أظنه يحدث .. هل تشعر نحوها بالعطف ..؟
ـ قطعا .. وإذا كان لايحبها فلماذا لايسرحها بالمعروف .. ونحـن مسلمون ..؟ والطلاق ليس صعبا .. وهما ليسا صغارا ..
ـ لو كان السبب الكراهية لطلبت هى الطلاق ..
ـ لا أظن هذا .. فهى مسكينة لاحول لها ولاطول ..

وشعرت بعد هذا الحديث بالأسف والخجل .. وأخذت أحد النظر فى " شكرى " كلما التقيت به ، لأجد فى سحنته العلة التى تجعله هكذا شاذا متسلطا لايسمع زوجته كلمة حب ، ولا ينظر اليها نظرة عطف .. ولكننى لم استطع الاهتداء إلى شىء ملموس .

***

ولما بلغنا مدينة " استانبول " شعرنا جميعا بفرحة غامرة ، فقد كان الجمال المحيط بنا فوق مستوى خيالنا .. ودخلنا نحن الخمسة مسجد أيا صوفيا متفرقين ..

ورأيت السيدة الهام فى ركن المسجد ، تطيل السجود ، وفى عينيها الدموع .. ولم أر أجمل من عينيها فى هذه الساعة .

***

وخرجت من المسجد وحدى .. وقضيت فى " استانبول " الأيام الثلاثة منفردا لأنى اخترت ذلك ، لأقطع المدينة طولا وعرضا وأرى فيها كل موضع جمال .

وعدت إلى السفينة فى عصر اليوم الثالث قبل السفر بساعة ..

وتحركت السفينة .. وتجمع الركاب على الظهر ، وفى كل الجـوانب ، ليشاهدوا البسفور عن قرب .

وسمعت المثل ..

ـ من لم ير البسفور لايرى الجنة ..
ـ هذا ظلم للفقراء ..والناس عند خالقهم سواسية .. فمن أين لهم المال للسفر ..
ـ إذن من يرى البسفور كأنه رأى الجنة ..
ـ هذا أحسن ..

وابتسمت ، وأنا أسمع هذا الحوار حولى ..

***

ودخلنا البحر الأسود .. وفى صباح يوم مبكر .. رست السفينة على ميناء كونستنزا ..

واتفقنا نحن الخمسة على أن نقضى اسبوعا فى مصيف جميل قريب من كونستنزا اشتهر ركن فيه طينى بعلاج الكثير من الأمراض .

ووصلنا مصيف كارمن سيلفا بعد الغداء .. واخترنا نزلا صغيرا أشبه بالبيت .. فنـزلنا فيه .. وأخذنا نتجول ، واعترضنا الكثير من الغجر ، يعرضون ملابسهم المزركشة المنسوجة باليد ..

وفى الصباح التالى انفرد شاب من هؤلاء الغجر " بالهام " واغراها بشراء ثوب جميل النسج فابتاعته منه ..

ولما رآه زوجها شكرى سألها عن ثمنه ، وخرج إلى الغجرى مسرعا ليرد له الثوب ويسترد النقود .. وحدثت مشادة بينه وبين الغجرى ، وقال له هذا أنه باع الثوب للسيدة وليس له .. وإن كانت هذه الليات (اللي عملة رومانى ) القليلة تعضله فانه يقدم الثوب للسيدة هدية .. واستشاط شكرى غضبا وصفع الغجرى .. وتحمل الغجرى الصفعة ولم ينبس ومشى وعيناه تقدح نارا .

وسمعنا بالخبر ولمنا " شكرى " على تصرفه هذا وحماقته ، وكانت زوجته مرتاعة .. وخشينا على أنفسنا من تجمع الغجر علينا ونحن غرباء فى مصيف صغير .. وقررنا ألا نتجول فى هذه الليلة .

***

وفى الصباح التالى كنا قد نسينا ما حدث واتجهنا إلى البلاج .. وهو مقسم قسمين .. قسم للنساء على اليمين .. وقسم للرجال على الشمال .. وبينهما حاجز طويل وذلك لأن النساء يسبحن عرايا ..

ونزلنا نحن الخمسة فى الماء .. كل فى قسمه .. وكان الرجال منا يجيدون السباحة .. وكان شكرى أمهرنا فأبعد .. وسبحت وراءه ، ولكنى لم أكن فى مثل براعته ، واختلطنا بغيرنا من المصيفين .. ولمحت الغجرى يسبح وحده ، حتى جـــاوز الحاجز الذى بين الرجال والنساء .. وغاص فى الماء ..

***

وخرجنا نحن الأربعة من الماء فى ساعة الظهر .. ولم يخرج " شكرى " وانتظرناه على الشاطىء ، وكان الغجرى يتجول بيننا حاملا بضاعته على ذراعه .. ولم يبد على سحنته أنه نزل الماء قط .. حتى أننى شككت فيمن أبصرته مثله وأنا أسبح ..

وبعد ساعة أبلغنا رجال الانقاذ بغياب شكرى .. وبحثوا فى الماء فى طول وعرض الشاطىء .. ولما دخل الليل سلطوا الكشافات ولم يهتدوا إلى شىء ..

***

وانتظرنا فى المدينة ثلاثة أيام لتطفو جثته .. إن كان قد غرق .. ولكن خاب فألنا فلم نعثر له على أثر فى الأرض ولا فى الماء .

وكانت زوجته المسكينة فى حالة اغماء وقىء وتكرر منها ذلك .. فطلبت " نادية " أن نستدعى طبيبا لفحصها ، خشية أن تكون حاملا ويضر حزنها الجنين ..

وجاء الطبيب ورافقته " نادية " عند الفحص ..

ولما خرج الطبيب .. سألتها ..
ـ هل تم الفحص ..؟
ـ أجل ..
ـ ووجدها حاملا ..؟
ـ وجدها عذراء ..!

ولم أنبس .. وأخذت أبحث فى الجدول عن أول قطار مسافر إلى بوخارست ..
================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد يونيو 1979 وأعيد نشرها فى مجموعة الظرف المغلق لمحمود البدوى عام1980

ليست هناك تعليقات: