رسالة من الميدان
قصة محمود البدوى
فلسـطين
" كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحة وأشدها فتكا
بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتـــال الأبطال"
جلست فى القطار السريع العائد من فلسطين ، مرسلا البصر عبر النافذة إلى الصحراء والتلال والكثبان الرملية التى لايحدها النظر ..
وكنت قد خرجت لتوى من المستشفى العسكرى بعد إصابة بالغة فى جبهة القتال .. ومنحـت إجازة طويلة أسترد خلالها عافيتى ..
وجلست منفردا منـزويا فى ركن من العربة ، بعيدا عمن حولى من الركاب دائرا حول نفسى كالقوقعة ..
وكنت أحمل رسالة عزيزة وضعتها فى جيب سترتى ، رسالة من صديقى الضابط الشهيد محى الدين .. الذى كان يحارب معى فى نفس الجبهة .. وكان قد كتبها لوالدته قبل أن يخـوض المعركة .. يستودعها ابنه الصغير وزوجته التى لم تستمتع بعد بالحياة .. وكان يتوقع الموت .. فقد كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحـة وأشـدها فتكا بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتال الأبطال .
وكانت صورة المعارك الدامية قد طافت بذهنى وأنا أنظر عبر السهول الفسيحة الممتدة إلى ما لا نهاية .. والقطار ينهب الأرض نهبا.. وكنا فى يوليو والجو خانقا .. والركاب المدنيون الجالسون معى فى نفس الديوان .. يلعنون مصلحة السكك الحديدية لأنها رفعت المراوح الكهربائية التى فى القطار .. ويسبون كل شىء .. وكنت أسخر من هذه الرفاهية .. فلم أكن أحس بشىء ذا بال .. فقد تعودنا على الخشونة بكل ضروبها .. فلم يكن يرهقنى أن لا أجد مروحة فى عربة .. وكنت أسخر من هؤلاء الركاب .. وأغتاظ من تفاهة تفكيرهم .. وزادنى غيظا أن بعضهم لم يكن يحس بشىء مما نحن فيه من هول .. لم يكن يدرى أن هناك حربا فى فلسطين دائرة على أشدها ..
وعندما خرجت من نطاق المحطة وهبطت إلى المدينة .. مدينة القاهرة فى الليل .. رأيت الأنوار والأضواء .. والملاهى والمواخير .. والمراقص الدائرة ، وازداد حنقى فقد كنا نقاتل فى جبهتين منفصلتين بكليتنا عن الوطن الذى ندافع عنه.
***
ونمت فى بيتى إلى الصباح .. وكنت أحمل فى حقيبتى ساعة محيى الدين الذهبية ومحفظته .. وحجابا صغيرا صنعته له أمه قبل سفره إلى الجبهة .. وقلما من الأبنوس ومفكرته الصغيرة .. وهى كل الأشياء العزيزة التى تخصه .. والتى أفرغتها من جيوبه قبل أن يحمله الجنود على نقالة إلى المستشفى الميدانى .. فأخرجت هذه الأشياء ووضعتها فى حقيبـة صغيرة واتجهت إلى بيت صاحبى فى ضاحية القبة .
وصـعدت سلالم المنزل الصغير الأنيق وقلبى يعصره الألم ..
وجلست فى غرفة الصالون وحيدا .. بعد أن فتحت لى الخادم الباب .. وسمعت وأنا جالس صوت الراديو يردد بعض الأغانى الشائعة .. ما هذا .. أيجهلون كل شىء ؟! ..
ودخلت علىّ السيدة والدة محيى الدين بردائها الأسمر السابغ ، وكانت تعرفنى .. فلما رأتنى ظهر على وجهها البشر
وقالت :
ـ انت يا بنى .. وازى محيى ..؟
ولم أقل شيئا .. واستمرت هى ترحب بى مسرورة .. وأدركت بعد دقيقة واحدة من مجلسى معها أنها تجهل أن ولدها مات .. وكانت متلهفة على سماع أخباره .. وأسقط فى يدى .. كيف أحدثها بخبره .. ولو حدثتها وهى فى غمرة نشوتها لقتلتها من هول الصدمة .. فكتمت الخبر .. وأخذت أروى لها مختلف الأحاديث عنه . .
وسألتنى :
ـ ومتى سيأتى ..؟
قلت :
ـ بعد شهرين ..
وذاب قلبى حسرات .. وتذكرت كل ما كنت أحمله فى جيوبى من هدايا لأسرتى .. وأخرجتها وقدمتها لوالدة محى الدين على أنها مرسلة من ابنها .. لها ولزوجته ..
وجرت بالهدايا إلى الزوجة فى الداخـل ، وهى تصيـح ، بصوت طروب :
ـ شوفى يا اعتـدال .. إيه اللى باعتولك جوزك ..
وسمعت صوتا رقيقا ناعما يقول من فرجة الباب :
ـ مرسى .. مرسى خالص ..
وأخذت أنظر إلى هؤلاء الناس المتلهفين على أخباره ، والمتوقعين قدومه فى كل لحظة ، الذين يتصورون كل شىء إلا أنه مات وراقد هناك تحت الثرى ..
ومرت فى خيالى صور .. وذكريات ..
وعندمـا ودعت الوالدة .. وحملت ابن محى الدين وقبلته وهبطت سلم البيت .. وخرجت إلى الشـارع .. كن واقفـات فى الشـرفة لوداعى ..
***
ولم تبرح صورة محى الدين وصورة أسرته ذهنى بعد ذلك أبدا .. كانت تشغل تفكيرى كله .. وقررت أن أفعل شيئا سريعا حاسما لأريح أعصابى .. قررت أن أعود إلى جبهة القتال لأنتقم له ..
وعدت إلى فلسطين .. واشتركت فى المعركة الكبرى .. وقتلت كثيرا من اليهود .. وشعرت بنشوة النصر ولذة الانتقام .. وفى حمى المعركة أصبت بشظية فغبت عن الوجود وحملت وأنا فى الغيبوبة إلى المستشفى ..
***
وعندما فتحت عينى وعـدت إلى رشـدى ، وجدت نفسى فى مستشفى الحلمية العسكرى .. وبجوارى تقف سيدة شابة فى لباس الممرضات .. وكان وجهها كالبدر ، ونظرت اليها طويلا وعرفتها .. كانت زوجة محيى الدين ..
***
اننى أعيش الآن فى منـزل محيى الدين .. مع والدته الكريمة ، وابنه الصغير ، وزوجته التى أصبحت زوجتى ، وعزيزة على منذ تلك اللحظة الخالدة فى تاريخ الإنسان ، وأشعر أنهم لم يفقدوا شيئا .. كما أشعر أننى أديت الرسالة التى حملتها معى من الميدان .
=================================
نشرت القصة بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى المنشورة فى عام 1956
=================================
قصة محمود البدوى
فلسـطين
" كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحة وأشدها فتكا
بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتـــال الأبطال"
جلست فى القطار السريع العائد من فلسطين ، مرسلا البصر عبر النافذة إلى الصحراء والتلال والكثبان الرملية التى لايحدها النظر ..
وكنت قد خرجت لتوى من المستشفى العسكرى بعد إصابة بالغة فى جبهة القتال .. ومنحـت إجازة طويلة أسترد خلالها عافيتى ..
وجلست منفردا منـزويا فى ركن من العربة ، بعيدا عمن حولى من الركاب دائرا حول نفسى كالقوقعة ..
وكنت أحمل رسالة عزيزة وضعتها فى جيب سترتى ، رسالة من صديقى الضابط الشهيد محى الدين .. الذى كان يحارب معى فى نفس الجبهة .. وكان قد كتبها لوالدته قبل أن يخـوض المعركة .. يستودعها ابنه الصغير وزوجته التى لم تستمتع بعد بالحياة .. وكان يتوقع الموت .. فقد كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحـة وأشـدها فتكا بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتال الأبطال .
وكانت صورة المعارك الدامية قد طافت بذهنى وأنا أنظر عبر السهول الفسيحة الممتدة إلى ما لا نهاية .. والقطار ينهب الأرض نهبا.. وكنا فى يوليو والجو خانقا .. والركاب المدنيون الجالسون معى فى نفس الديوان .. يلعنون مصلحة السكك الحديدية لأنها رفعت المراوح الكهربائية التى فى القطار .. ويسبون كل شىء .. وكنت أسخر من هذه الرفاهية .. فلم أكن أحس بشىء ذا بال .. فقد تعودنا على الخشونة بكل ضروبها .. فلم يكن يرهقنى أن لا أجد مروحة فى عربة .. وكنت أسخر من هؤلاء الركاب .. وأغتاظ من تفاهة تفكيرهم .. وزادنى غيظا أن بعضهم لم يكن يحس بشىء مما نحن فيه من هول .. لم يكن يدرى أن هناك حربا فى فلسطين دائرة على أشدها ..
وعندما خرجت من نطاق المحطة وهبطت إلى المدينة .. مدينة القاهرة فى الليل .. رأيت الأنوار والأضواء .. والملاهى والمواخير .. والمراقص الدائرة ، وازداد حنقى فقد كنا نقاتل فى جبهتين منفصلتين بكليتنا عن الوطن الذى ندافع عنه.
***
ونمت فى بيتى إلى الصباح .. وكنت أحمل فى حقيبتى ساعة محيى الدين الذهبية ومحفظته .. وحجابا صغيرا صنعته له أمه قبل سفره إلى الجبهة .. وقلما من الأبنوس ومفكرته الصغيرة .. وهى كل الأشياء العزيزة التى تخصه .. والتى أفرغتها من جيوبه قبل أن يحمله الجنود على نقالة إلى المستشفى الميدانى .. فأخرجت هذه الأشياء ووضعتها فى حقيبـة صغيرة واتجهت إلى بيت صاحبى فى ضاحية القبة .
وصـعدت سلالم المنزل الصغير الأنيق وقلبى يعصره الألم ..
وجلست فى غرفة الصالون وحيدا .. بعد أن فتحت لى الخادم الباب .. وسمعت وأنا جالس صوت الراديو يردد بعض الأغانى الشائعة .. ما هذا .. أيجهلون كل شىء ؟! ..
ودخلت علىّ السيدة والدة محيى الدين بردائها الأسمر السابغ ، وكانت تعرفنى .. فلما رأتنى ظهر على وجهها البشر
وقالت :
ـ انت يا بنى .. وازى محيى ..؟
ولم أقل شيئا .. واستمرت هى ترحب بى مسرورة .. وأدركت بعد دقيقة واحدة من مجلسى معها أنها تجهل أن ولدها مات .. وكانت متلهفة على سماع أخباره .. وأسقط فى يدى .. كيف أحدثها بخبره .. ولو حدثتها وهى فى غمرة نشوتها لقتلتها من هول الصدمة .. فكتمت الخبر .. وأخذت أروى لها مختلف الأحاديث عنه . .
وسألتنى :
ـ ومتى سيأتى ..؟
قلت :
ـ بعد شهرين ..
وذاب قلبى حسرات .. وتذكرت كل ما كنت أحمله فى جيوبى من هدايا لأسرتى .. وأخرجتها وقدمتها لوالدة محى الدين على أنها مرسلة من ابنها .. لها ولزوجته ..
وجرت بالهدايا إلى الزوجة فى الداخـل ، وهى تصيـح ، بصوت طروب :
ـ شوفى يا اعتـدال .. إيه اللى باعتولك جوزك ..
وسمعت صوتا رقيقا ناعما يقول من فرجة الباب :
ـ مرسى .. مرسى خالص ..
وأخذت أنظر إلى هؤلاء الناس المتلهفين على أخباره ، والمتوقعين قدومه فى كل لحظة ، الذين يتصورون كل شىء إلا أنه مات وراقد هناك تحت الثرى ..
ومرت فى خيالى صور .. وذكريات ..
وعندمـا ودعت الوالدة .. وحملت ابن محى الدين وقبلته وهبطت سلم البيت .. وخرجت إلى الشـارع .. كن واقفـات فى الشـرفة لوداعى ..
***
ولم تبرح صورة محى الدين وصورة أسرته ذهنى بعد ذلك أبدا .. كانت تشغل تفكيرى كله .. وقررت أن أفعل شيئا سريعا حاسما لأريح أعصابى .. قررت أن أعود إلى جبهة القتال لأنتقم له ..
وعدت إلى فلسطين .. واشتركت فى المعركة الكبرى .. وقتلت كثيرا من اليهود .. وشعرت بنشوة النصر ولذة الانتقام .. وفى حمى المعركة أصبت بشظية فغبت عن الوجود وحملت وأنا فى الغيبوبة إلى المستشفى ..
***
وعندما فتحت عينى وعـدت إلى رشـدى ، وجدت نفسى فى مستشفى الحلمية العسكرى .. وبجوارى تقف سيدة شابة فى لباس الممرضات .. وكان وجهها كالبدر ، ونظرت اليها طويلا وعرفتها .. كانت زوجة محيى الدين ..
***
اننى أعيش الآن فى منـزل محيى الدين .. مع والدته الكريمة ، وابنه الصغير ، وزوجته التى أصبحت زوجتى ، وعزيزة على منذ تلك اللحظة الخالدة فى تاريخ الإنسان ، وأشعر أنهم لم يفقدوا شيئا .. كما أشعر أننى أديت الرسالة التى حملتها معى من الميدان .
=================================
نشرت القصة بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى المنشورة فى عام 1956
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق