الجمعة، 17 أبريل 2015

الجمعة، 10 أبريل 2015

الذئاب الجائعة للأديب الراحل محمود البدوى









الذئاب الجائعة


خرجنا فى الهزيع الأخير من الليل نزحف نحو المزرعة كالذئاب الجائعة ، ومع أننا كنا مسلحين بأحسن طراز من البنادق ، فقد كنا نتجنب الحراس ونراوغ كالثعالب ، لأننا نعرف قيمة الدم المهدور فى الصعيد ، ولهذا كنا نتخير الأوقات التى تقفل فيها العيون وتغفو .
كان الظلام على أشده فى تلك الليلة ، وكانت وجهتنا مزرعة عثمان بك ، وهو من الأثرياء الأشحاء .. كان جبارا شديد البطش مرهوب الجانب ، وكانت مزرعته متطرفة عن سائر المزارع ، وعليها أشد الحراس ساعدا وأبرعهم رماية .. ولكنا كنا لانخاف أحدا ولا نرهب انسانا ..
كنا من الفتاك الذين يبطشون فى الأرض ، ويعيثون فيها فسادا ، لايردعنا حلم ، ولا يردنا عقل ، ولا يزجرنا زاجر .. كنا نحمل الحقد والضغينة على المجتمع الإنسانى ، الذى طردنا من كنفه ، وشردنا فى الأرض ، وقطع بنا الأسباب ..
وكانت قسوتنا ، وغلظ أكبادنا ، على قدر ما أصابنا فى مستهل حياتنا ، من ضنك العيش وشظفه ، وبلاء الأيام ومحنتها ..
فكانت الفرائص ترتعد لذكرنا ، والقلوب تنخلع لوقع أقدامنا .. وكنا قد ضربنا بكل شىء عرض الأفق ، وعشنا على السرقة والنهب ، نقطع الطريق على الناس ، ونسطو على المزارع فى غلس الليل وفحمته .. وكنا نشعر بعد كل حادثة بلذة المغامرة التى لاحد لها ..
كانت حظائر الماشية فى شرق المزرعة ، وحظائر الغنم ، وهى مبتغانا وقصدنا ، على رأس الطريق المؤدى إلى الحقول ، وكان حول الغنم سياج يبلغ رأس الرجل .. وله بابان أحدهما يؤدى إلى الطريق الصغير الممتد إلى باقى الحظائر ، والآخر يفضى إلى الحقول .
وكنا قد درنا حول المزرعة فى الليالى السابقة ، وعرفنا كل شىء فيها ، ورأينا أن خير ما نفعله لنتقى كلابها ، هو أن نرسل واحدا منا يناوش كلاب مزرعة مجاورة ، فتخرج إليها كلاب المزرعة التى نقصدها .. وفى تلك الساعة نتقدم نحو الحظيرة ، ونخرج بالغنم إلى بطن الوادى ثم نتجه بها فى طريق غير مألوفة إلى الشرق ، وبذلك ننجو بها ..
وتم كل شىء بمنتهى السرعة .. فبعد دقائق قليلة كنا نسوق الغنم .. وتحولنا بها إلى بطن الوادى ، وأخذت عصينا تعمل فوق ظهورها بحمية .. وكنا نسير خلفها وواحد منا فى مقدمتها ، ونحن صامتون ، وصوت الكلاب فى المزرعة المجاورة يقطع علينا هذا السكون العميق ، ثم فتر نباح الكلاب بالتدريج وانقطع صوتها .. وسكن كل شىء ، وخمد كل حس ، وساورنا الاطمئنان المطلق ..
وتنفسنا الصعداء ونحن نجتاز بالغنم الوادى ، وندور بها حول التل ، والسكون يخيم والصمت شديد ، وصوت الأمواج المتكسرة على شاطىء النيل يصل إلى آذاننا عن بعد كأنه زمجرة الوحوش فى الأجم ، ونيران الفلاحين فى المزارع البعيدة تبدو فى غياهب الليل كألسنة الجحيم ..
ودرنا حول الغنم ونحن نحثها على الاسراع ، وقد ساورنا شعور من اقترب من الهدف فاندفع بأقصى قوته ليستريح فى النهاية ..
وسمعنا فجأة صوت رصاصة مرقت فى الجو .. فحبسنا أنفاسنا ، وصوبنا أبصارنا إلى حيث انطلقت الطلقة .. وقد أخذنا أهبتنا للأمر .. وكانت الكلاب قد عادت تنبح ، ثم انقطع نباحها شيئا فشيئا .. فتصورنا الطلقة من أحد الفلاحين الذين يبيتون فى المزارع ، ويطلقون النار على غير هدى ، فى أخريات الليل ليرهبوا اللصوص .. وعاد إلينا الاطمئنان واستأنفنا السير .. وإذا بنا نسمع طلقات متصلة اهتز لها الجو وزأر وهاجت الكلاب وتفزعت كأنها فى شجار مستعر ..
استدرنا وانبطحنا على وجوهنا وتركنا الغنم مع واحد منا يسوقها بأقصى سرعتها .. وأخذ الرصاص يدمدم ويصوب إلى اتجاهنا ..
لقد تقفوا أثرنا وعرفوا طريقنا ولم يكن من القتال بد ..وزحفنا كما تزحف السلاحف إلى مشرف عال بجانب الطريق .. وأخذنا نرد على طلقات الحراس بطلقات أشد منها ..
وانقلب الجو إلى معركة حامية .. واشتدت علينا المطاردة وكثر طلق النار .. وكأنما خرجت إلينا المزارع بجميع حراسها وأحسسنا بدقة موقفنا .. وأدركنا أننا لو بقينا فى مكاننا فنحن هالكون لامحالة ، فتراجعنا إلى مكان آخر .. ورأينا أن نسرح الغنم ليكف عنا الحراس .. وعهد الرفاق إلىّ وإلى زميلى حسان بهذه المهمة .. فأخذنا نغير اتجاه الغنم ونردها على أعقابها .. وبعد دقائق قليلة كنا ندفع الغنم من حيث جاءت والرصاص يصفر فوق رأسينا .. ورميت رفيقى بحصاة .. ونهضنا معا وجرينا بكل ما وسعنا من السرعة .. وسمعت أنة مفزعة وسقط جسم رفيقى على الأرض ، فأسرعت نحوه وحملته .. وبعد لحظات جاء الرفاق .. وحملناه .. وسرنا به مسرعين قبل أن يفضحنا نور الفجر ..
***
انقطع صوت النار وخف نباح الكلاب  ثم سكن  وخيم السكون العميق .. وبلغنا بصاحبنا التل .. وكان قد فارق الروح فى الطريق بعد أن تألم كثيرا .. ووضعناه فى الزورق ، وأعملنا الأيدى فى المجاديف ، واتجهنا نحو الغرب ، وقد خيم علينا الصمت ..
ما أعجب الحياة !
لقد انتهت حياة رفيق لنا فى مثل خطف البرق ، وما ذرف أحد منا دمعة ! فقد قست قلوبنا وتحجرت مآقينا .. وهل هو القتيل الأول ؟ .. أبدا .. ولن يكون الأخير .. وسيأتى دورنا ما من ذلك بد ..
وتبادلنا المجاديف ، والرفيق الذى كان يضاحكنا فى المساء ويمازحنا قد رقد هناك فى ركن من الزورق ، صامتا أخرس ..لقد كان صمته أبلغ من نطقنا .. ولقد أطبق فمه وهو فى بكائر أيامه وربيع عمره ، وضرب الضربة البكر ، وهو فى أول عهده بالحياة .. قضى .. لأنه كان أكثرنا حماسة .. وأشدنا بطشا ، ولقد انتهت تلك القوة الجبارة فى ساعة قصيرة مفجعة ، وكنا جميعا نتوقع الموت فى كل ليلة نخرج فيها للسرقة إلا هو ، فقد كان الموت أبعد شىء عن ذهنه .. ولعل الشباب والجبروت وقوة الحيوية هى التى جعلته هكذا .. ولكن ما أعجب الأقدار ! لقد اختطفته هو ، وخلفتنا نحن .. إلى حين ! .
وانحنيت على جسمه أتأمل روعة الموت فى ذلك الوجه الناضر .. فإذا بوجهه قد احتقن وتصلب واغبر ، وبرزت عيناه فى رعب ، وسقط فكه الأسفل ، فعل من عانى أشد برحاء الألم .. وأغمضت عينيه ، وقد أذهلنا الموقف المروع عن فعل ذلك من قبل .
وأخرجناه من الزورق وحمله اثنان منا ، وسار الباقون خلفهما فى صمت كئيب .. وبدا الجبل رهيبا موحشا ، شامخا جبارا .. وسيضم جبارا مثله .. أخذنا نتبادل حمله ، وقد ثقل جسمه وتصلب .. وعلى الرغم من أننا ربطنا الجرح ، كان الدم لايزال يتفصد ، وكانت أرجلنا تغوص فى الرمال ، وعرقنا يختلط بدم القتيل ، ويسيل على وجوهنا وثيابنا .. يا لله .. أى حياة يحياها الأشقياء فى القرية .
تطلعنا إلى الأفق الشرقى وقد بدى بياض الفجر يزحف .. وكنا قد قربنا من المقبرة ، وثار الغبار الدقيق فى وجوهنا وملأ خياشيمنا ، وأخذ الصمت الرهيب يطالعنا من كل جانب ، وكنا نتبادل من قبل بضع كلمات ، ولكن ما لاح شبح المقابر عن بعد ، وهى رابضة عند سفح الجبل ، حتى تملكنا شعور من الرهبة ، ومزيج من الخوف والابتئاس .. فتصبب العرق على وجوهنا .. وأصبح كل شىء حولنا كريها بغيضا .. فأحسسنا فى أعماقنا بشعور من أشرف على الهاوية ، ووقف على رأس الجب وعيناه إلى تنين هائل ..!
لقد كان عذابنا لاحد له ، وقلقنا لايصور ، وشعورنا بالبغضاء يفوق كل وصف .. كنا نود لو نلقى بصاحبنا فى اليم ، ونجعله طعمة الأسماك ، أو نطرحه فى العراء ، لتنقض عليه صقور الجو ، وجوارح الطير .. وأسفنا على كل ما تحملناه فى سبيله حتى بلغنا به الجبل ، حيث المقابر ..
لقد أثارت هذه المسافة الطويلة التى حملناه فيها كل ما يمكن أن يحمله إنسان لإنسان من حقد وكراهية .. فلو اعترضنا فى تلك الساعة الرهيبة معترض لمزقناه إربا ..
كنا نسير فى طريق المقبرة ذاهلين مشدوهين ، وكأننا نحمل جبلا على أعناقنا .. كان شقاؤنا مرا وعذابنا غليظا .. وكان الحسك والشوك وشجر الصبار ينبت على جانبى الطريق .. وكنا ندوسه بأقدامنا ونحن لانحس به من فرط الذهول ..
لقد مرت علىّ فى تلك الساعة الرهيبة صور حياتى من الوقت الذى شببت فيه عن الطوق إلى أن أصبحت من الفتاك الآثمين .. وضمنى هؤلاء الرفقاء إلى زمرتهم .. وسرنا جميعا فى طريق الظلام .. هل كنا سنصبح هكذا ونعيش على هذا النحو لو أنيرت أمامنا السبل ، ورفعت المشاعل وتبينا السبيل ؟    أبدا .. لقد كنا أشد ما نكون حماسة وفتوة ونضارة ، فانتقلنا من الروض إلى بيداء التيه ، بعد أن ضاقت بنا السبل ، ودفعنا المجتمع إلى ركوب هذا الطريق .. فيجب أن نمضى إلى النهاية ..
إن أحدا من الناس لم يفكر فى الساعة الفاصلة فى تاريخ الإنسان .. الساعة الفاصلة فى تاريخ الرجل ، التى قد يكون بعدها ملاكا رحيما أو شيطانا رجيما .. لقد مرت بنا تلك المحنة القاسية كما لم تمر على مخلوق بشرى ، وكنا نتعذب ونقاسى من البرد والجوع والشقاء ، ونحمل من الأعباء ما تنوء بحمله الجبال .. كنا نعمل ونحن صغار فى الحقول ، فلا نحصل فى آخر النهار حتى على ما يمسك الحوباء ، كنا نرتعش من البرد فى ليالى الشتاء ، ونتألم من الجوع .. ولم يكن عملنا منتظما ، بل كنا نعمل يوما ونتبطل خمسة .. وكان كل شىء يعمل على عذابنا وشقائنا ، فلم يكن بد من هذه الطريق !
ولم نكن نشعر فى أول الأمر ، بعد كل حادثة سطو بشعور الرجل الراضى عن عمله وفعله ، بل كنا فى ساعات كثيرة نشعر بالندم ، وعذاب القلق ، إذا ما اسفرت الليلة عن محنة وبانت عن قتيل .. ثم مضت الأيام وجرفنا التيار إلى نهاية المنحدر ، فغلظت قلوبنا .. وماتت ضمائرنا .. وغدونا أشد ضراوة من الوحوش ..
***
كان النور قد شعشع على الكون ، وبدت المقابر المتناثرة على سفح الجبل .. وحلقت الغربان فى الجو .. وتطلعنا إلى قرن الجبل ، ولمحنا عن بعد ذئابا تنحدر عن قمته ، وخيل إلينا أنها ترقبنا عن بعد .. ما أشبهنا بهذه الذئاب .. إنها تسعى الآن لتأكل إنسانا أو حيوانا ، فإذا لم تجد أكلت نفسها ..
رمقنا هذه الذئاب بعيون تتقد غيظا وحنقا .. وكانت تنظر إلينا بمثل نظرتنا .. وتنحدر عن التل لتأخذ علينا الطريق .
بحثنا عن فأس لنحفر لرفيقنا حفرة .. فلم نجد .. وأخذنا نعمل فى التراب بأيدينا وأطراف بنادقنا ، حتى حفرنا له حفرة ، وواريناه .. ونفضنا عن أيدينا الغبار .. وكانت الذئاب لاتزال تنحدر عن التل ، وتتجه نحونا ، أو تتجه نحو المقبرة الجديدة !
وكانت ترقبنا بعيون جائعة !

==============================
نشرت فى مجموعة قصص " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى عام 1944 وأعيد نشرها فى كتاب قصص من الصعيد من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
===============================











ساعات الهول


       فتحت عينى فى ثقل شديد ، وحركت ساقى .. حركت فخذى الأيمن ، وتحسست بيدى موضع الجرح .. يالله ! .. لم يكن هناك جرح ولا قدم ولا ساق .. لقد ذهب ذلك كله فى غير رجعة ، شعرت بقشعريرة شديدة تسرى فى جسمى ، وتملكنى الجزع .. لقد وضحت الحقيقة كنور الشمس ، وغدوت بين عشية وضحاها فى عداد الموتى .. أنا حى .. ولكنى ميت .. ميت فى الحقيقة ..
     مددت ذراعى وحاولت أن أحرك رجلى اليسرى ، فلم أستطع ، هل ذهبت هى الأخرى ..؟ هل قطعوها أيضا ..؟ ياللهول ..! نظرت إلى الفخذ والساق والقدم بأصابعه ، كل شيء باق على حاله ، كل شيء فى مكانه وموضعه من جسمى ، ولكن لماذا لا تتحرك رجلى ..؟ لماذا لا أستطيع تحريكها ..؟ لا أستطيع أن أفهم .. هل سرى فيها التخدير ..؟ هل أصابتها عدوى من أختها ..؟ مسحت بيدى على فخذى ، لأعيد إليها الإحساس ، وأجرى فيها الحرارة ، وحاولت أن أتحرك ، أن أنهض بنصف جسمى ، كما كنت أفعل ذلك من قبل ، وأنا سليم معافى صحيح البدن قوية .. فلم أتمكن .. أغمضت عينى ، وقضقضت بأسنانى ..! ليس على ساقى أربطة ولا جبس ، فلماذا لا أستطيع تحريكها ..؟ دفنت رأسى فى الوسادة ، وأنا أزفر كالمحموم ، أرسلت زفرة محترقة من صدرى ، وأخذت أضرب الوسائد بذراعى ، وحوافى السرير برأسى ، ثم صحت بأعلى صوتى .. تملكتنى ثورة نفسية جامحة .. وسمعت أقداما تتجه إلى الغرفة .. وظهرت ثلاث من الممرضات على الباب ، فنظرت إليهن فى غيظ .. لاشك أنهن وقفن هذه الوقفة ، هادئات جامدات وفى عيونهن تلك النظرات ، عندما كان الطبيب يجزر ساقى ..!! هززت رأسى ، وبرقت عينى .. وجاء الطبيب فحدق فى وجهى برهة .. وتكلم مع إحدى الفتيات .. وجاءت الفتاة فوضعت قطعة من الفلين بين أسنانى ، فمنعتنى من أن أصرف بنابى ، لقد كنت فى حالة هياج وخبل .. شعرت بالغيظ الوحشى ، والحسد الفطرى ، وأنا أنظر إلى الطبيب وهو يلقى الأوامر على الممرضات ، ثم يخرج سائرا على قدميه فى نشاط ومرح ..! يالله .. لن أسير بعد اليوم فى الطرقات ، ولن أخرج إلى المتنزهات ، ولن أزور أحدا ممن كنت أحبهم .. لقد تقطعت بى الأسباب ، أغمضت عينى ، وأرخيت جسمى ، وحاولت أن أوقف حركة تفكيرى .. وسمعت أقدام الممرضات فى طرقات المستشفى .. الأقدام دائما .. كان صوت الأقدام يفزعنى .. وددت لو أغلق عينى وأفتحها فلا أجد إنسانا يقف على قدمين .. وددت أن الناس جميعا عاجزون مقعدون مثلى .. هل سيوصى لى الطبيب بساق خشبية ..؟ يالسخرية الحياة ، وقسوة الزمن ، ويالنحس الساعة المشئومة .. ولكننى لن أفكر فى ذلك .. لا فى تلك الساعة ، ولا فى الزمن ، ولا فى لحظة من لحظات الماضى الرهيب ..
       ناولتنى الفتاة كوبا من الماء .. كان حلقى يلتهب من فرط الغضب .. وكانت تنظر إلىّ نظرة استحياء ، وقد لانت ملامح وجهها ، حتى خيل إلىّ أنها تبتسم فى خبث ، أو تنظر إلىّ فى شفقة ، وتلك سخرية المساخر ..؟ أنا الذى كنت أملأ الدنيا نشاطا وقوة ، أصبح موضع العطف من ممرضة ، تنظر إلىّ نظرتها إلى مسكين .. شعرت بقلبى يتمزق ..! وتحت ثقل الجزع والفزع وثورة الغضب ثقل رأسى ودار .. واستغرقت فى النعاس ..
***
       سبحت بعينى فى الظلام .. السكون يخيم على المستشفى .. كم الساعة الآن ..؟ كم مضى من الليل .. يالله ..؟ .. هل نمت كل هذه الساعات الطوال .. ليتنى ما صحوت .. ليتنى رقدت رقدة الأبد .. ما جدوى الحياة بعد ذلك ، وضعت يدى على جبينى ، كأنما أزيح الستر .. لقد وضحت الأشياء أمام ناظرى الآن .. وظهر جدار الغرفة وأثاثها .. إنها ليست غرفتى ، لقد نقلونى إلى غرفة أخرى ، وربما إلى مستشفى آخر ، من يدرى ..! لعلهم حسبونى مجنونا .. مسحت عينى ، وتململت على السرير ، لقد أراح النوم أعصابى ، أشعر الآن ببعض الراحة ، وأود أتذكر ، أود أن اتذكر كيف حدث هذا ..
       لقد كنت فى تلك الليلة نائما على فراشى .. واستيقظت بعد منتصف الليل على صوت صفارة الإنذار ، وكان من عادتى ألا أتحرك ، مهما كانت الحوادث .. ولكننى رأيت أن أنهض لأفتح زجاج النوافذ ، وأغلق الحواجز الخشبية ، وفى تلك اللحظة سمعت دوى المدافع يصك الآذان ، فوقفت فى وسط الغرفة بضع ثوان .. ثم مشيت إلى النافذة ، وتطلعت إلى السماء .. ياللهول ..!  كانت السماء تتأجج بنار الجحيم ، والأنوار الكاشفة تدور ألسنتها باحثة عن الطريدة .. التى لم تظهر بعد .. ظللت فى مكانى قرب النافذة ، وقد خيل إلىّ أننى قائد يرقب المعركة من فوق ربوة تشرف على الميدان وسكن كل شيء فجأة .. كفت المدافع المضادة عن طلقاتها .. وبلعت الأنوار الكاشفة ألسنتها ، وخيم صمت رهيب فى وسط ذلك الظلام الموحش .. واعتمدت بمرفقى على النافذة ، وقد عاودنى بعض الاطمئنان ، وإذا بى أسمع أزيزا متقطعا .. فرفعت وجهى إلى السماء .. وأصغيت بسمعى .. وفى مثل خطف البرق عادت السماء تتأجج بالنيران .. ودوى قصف الرعد .. دوى ذلك الصوت المزلزل الذى يتصاعد من الأرض ، كان ذلك صوت القنابل ، وهى تدك الأرض ، وتدفع موج البحر ، وتثير البراكين ..! حدث ذلك فى مثل لمح الطرف ، وتصاعد الصياح من كل جانب .. مع صوت النوافذ وهى تغلق ، والمنازل وهى تميد بسكانها .. وتراجعت إلى ردهة البيت ، ووضعت رأسى بين راحتى ..
       حاولت أن أحبس أنفاسى ، وأن أسد أذنى ، ولكن هيهات .. كان صوت القنابل قد اشتد واقترب .. وخيل إلىّ أن المنازل المجاورة أخذت تنهار على من فيها ، كما تنهار السيول من أعلى التل .. إنه الجنون بعينه إذا بقيت فى مكانى ، أخذت أروح وأجئ فى البهو .. وكانت أصوات القنابل لا تزال تدوى وتصم الآذان ، وخيل إلىّ أن الجحيم فتحت أبوابها .. كان كل شيء يميد ويلتهب فى السماء والأرض .. هلى أبقى هنا لأدفن بين الأنقاض ، ولا أحد يعرف مقرى ..؟  وسمعت حركة السكان ، وهم يجرون إلى السلم ، فنزلت مع النازلين إلى المخبأ ..
       وكان الناس يتدافعون فى هذا المكان الضيق بالمناكب ، واختلط كلامهم بصياحهم ، وكان أشد ما يغيظنى صياح النساء كلما أرعد الجو وأبرق ، وزلزت الأرض زلزالها ..
       وظهرت الطائرات بوضوح ، وهى تنقض على أهدافها وخيم على الناس الصمت .. وانهمرت القنابل على ضوء المشاعل ، فبرقت العيون ، واحتبست الأنفاس فى الصدور، وتطلعت الوجوه إلى الوجوه .. كان كل إنسان يود أن يقرأ ما يدور برأس صاحبه ، وما دار فى رءوسنا جميعا إلا خاطر واحد .. خاطر رهيب .. ياللهول ..! أحتبست الألسنة فى الحلوق ، وانقطع الهمس ، حتى الأطفال سكن صياحهم .. وفى تلك اللحظة الرهيبة كانت سحب الظلام الكثيف تغشى كل شيء .. واشتد الصمت الرهيب الموحش .. صمت الحشر .. لا همس ولا حس ، حتى القلوب خيل إلينا أنها كفت من الخفقان .. لم تمر علىّ ساعة قط كتلك الساعة .. شخصت الأبصار واعتلجت الأنفاس ، وحتى هؤلاء الذين كانوا يمزحون ويتندرون ويهونون الأمر على النساء ، ويلاعبون الأطفال ، صمتوا وشحبت وجوههم ، لقد شعرنا جميعا بالخطر المحدق .. وفى خلال ذلك الصمت الرهيب .. دوت القنابل من جديد بفظاعة وعنف .. وصاح الجميع فى صوت واحد ، ودفع بعضهم بعضا ، وتعلق بعضهم بأذيال بعض ..
       كان منظر الأطفال يفتت الأكباد ، ولكنا كنا فى ذهول تام عن كل شيء ، كانت الواعية قد شلت تماما.. لم يكن هناك بصر ولا باصرة .. كنا فى الواقع نرى ولا نرى ، كنا كمن أصابه مس أو أحاطت به الشياطين ..
       خيم السكون من جديد .. سكون الرمس .. ثم عاد أزيز الطائرات ، وصوت المدافع ، وصوت القنابل القريبة وهى تتناثر حوالينا ، وتدافع الناس وماجوا ، وأخذ بعضهم برقاب بعض .. وابتأ الغبار يتسرب إلى المخبأ ، واشتد السعال ، وغامت العيون .. ودوى قصف الرعد ، وتصورت أن القنبلة سقطت فى تلك المرة على أم رأسى ..! وفى حالة هياج وجنون كنت أدفع الناس يمينًا وشمالا ، وأجرى إلى الخارج ..
       ولا أدرى ما الذى حدث لهؤلاء المساكين الذين بقوا فى المخبأ .. فلقد سمعت أن قنبلة مباشرة سقطت عليهم ..! ومزقتهم إربا .. إنى لا أعرف ماذا جرى لى وأنا فى الطريق .. فعندما عدت لنفسى ألفيتنى فى المستشفى الأميرى القائم على الربوة الجميلة .. الذى كثيرا ما شيعته بنظراتى وأنا فى طريقى إلى الرمل .. لم أكن أدرى ، وأنا أرميه بنظرة عابرة من قبل ، أن سيتقرر فيه مصيرى ..! لك الحمد يا رباه هل أنا أحسن حالا الآن من هؤلاء الذين خلفتهم ورائى ، ودفنوا تحت الأنقاض ..؟ هل يمكن أن اتذكر بعض هذه الوجوه الشاحبة ..؟ أبدا ..
       رباه .. لقد بترت ساقى ، وانقطعت أسباب حياتى .. ولن أسعى غدا إلى المحكمة .. ولن أدافع عن الإنسانية المعذبة .. ولن يدوى صوتى كما دوى من قبل فى كل مكان .. لقد أسكتته أصوات القنابل ..
       رباه لست بطلا من أبطال القتال ، ولا جنديا جرح فى الميدان ، حتى يمكننى أن أسير فى الشوارع معتمدا على عكازى .. لا .. لم يكن لى ذلك الشرف ، فكيف أسير كما يسير الجنود والأبطال ..؟ 
       أريد أن أبصر النور .. نور الصبح الجميل ، وأرى أشعة الشمس ، وهى ترقص مع موج البحر ..
***
       استيقظت مبكرا ، وحاولت أن أضطجع على السرير ، فقد مضى علىّ أكثر من أسبوع ، وأنا راقد هكذا ، دون حراك ، كأنى جثة أعدت للتحنيط ..! وتحركت قليلا .. وسمعت صوت أول ترام فى الرمل ، وهو يسير إلى مصايف الثغر ..
ثم سمعت صوت الممرضات فى المستشفى ، وصافحت خياشيمى رائحة العقاقير ، وسمعت حركة العربة المشئومة .. وهى تزحف دون حس حاملة كل يوم جديدًا إلى عالم الموتى .. لقد أحسنوا إلىّ بوضعى فى هذه الغرفة المنعزلة عن المرضى ، فإن وجودهم معى يثير أعصابى .. لم أكن فى يوم من الأيام أشعر بالشفقة نحو المرضى أو العاجزين ، كان قلبى قد قد من صخر ، وكنت أعجب بالقوة أينما وجدت .. كما أحسنوا إلىّ بمنع الزيارات عنى ، فما أحب أن أرى إنسانا .. ما كنت أن أشاهد هؤلاء الحمقى ، وهم يلقون العبارات المكررة التى يحفظـونها عن ظهر قـلب ، والتى تثير الشجون ..! ثم النساء وهن يرسلن العبرات .. تبا لهن  ..!
       لم يعد لى عيش فى المدينة .. وبعد أيام سأذهب إلى مزرعتى فى الريف .. سأقيم إلى نهاية حياتى بين هؤلاء الفقراء البسطاء الشرفاء ، الذين سيعظمونى ويكبروننى ، رغم ضعفى ، ولن ينظر إلىّ واحد منهم نظرته إلى مسكين ، إنهم يعرفون ، ولا أحد يعرف مثلهم ، حكم الأقدار ..
=================================== 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
================================




























الدراجة

حدث منذ سنوات أثناء أزمة المساكن أن انتقلت فجأة من الإسكندرية إلى العاصمة فأخذت أبحث عن مسكن فى قلب القاهرة فلم أوفق .. وأخيرا اهتديت إلى سكن حديث بضاحية مصر الجديدة .. فى عمارة ضخمة على حدود الصحراء ..
وكان من ثلاث غرف فى شارع هادىء جميل يطل على الصحراء مباشرة وشعرت بعد أن حجزت الشقة وتسلمت من المالك المفتاح .. وسرت فى الشارع الطويل الذى يشق الصحراء وقرص الشمس يتوهج ويضع خده على الرمال الناعمة .. أن شيئا جديدا ورائعا يتولد فى داخل نفسى ..
وقبل اليوم الأخير من الشهر نقلت " العفش " .. وجلست فى الشرفة الفسيحة أرقب المكان .. وفى نفسى فضول واحساس كل ساكن جديد ..
كان المنزل فى نهاية الشارع .. وأمامه ميدان فسيح لم يخطط بعد .. وكان هناك كشك لبائع كازوزة وثلج يقوم فى الأرض الفضاء المجاورة وقد غرس فى الرمال ..
ورأيت رجلا يلبس لبدة ينام فى ظل الكشك .. وشابا يحمل خيشة على كتفه .. ويمضى إلى البيوت المتناثرة ..
وكان الشارع لم يتم .. ولذلك ترك المنتزة العام كما رسم على الخريطة ..
وكانت هناك بناية ضخمة على بعد مائتى متر .. ولم أكن أعرف أهى مدرسة أم مستشفى .. وكان المقاول قد تركها سوداء للريح .. والرمال السافية ..
ورأيت سيدة تدفع أمامها عربة أطفال .. وأخرى تحمل سلة صغيرة وراجعة من السوق .. وعربة رحلات خالية تدور فى الميدان ..
وكانت معى خادم عجوز تطهو لى طعامى وتقوم بأعمال البيت ومنذ انتقلت إلى المسكن الجديد وهى تظهر استياءها من المكان برغم جمال الشقة لأنها فى نظرها بعيدة عن السوق .. وتستغرق ساعة من وقتها لمجرد شراء رطل من الخضار .. وكيف تأتى بالجاز والصابون والثلج .. على أن استياءها خف عندما وجدت باب المطبخ يفتح مباشرة على الجيران ووجدت سيدة طيبة فى المطبخ المجاور فأخذت تتسلى معها من خلال الباب المفتوح تتحدث وتثرثر فى كل الشئون التافهة ..
والواقع أن العمارة على كثرة ما فيها من شقق وطوابق كانت كأنها مهجورة أو نزح سكانها إلى المصايف وكنا فى حر أغسطس وناره .. ونفيسة التى كانت تروى لى كل يوم على الطعام فى الإسكندرية حديثا مثيرا عن السكان .. قد وجدت نفسها فى هذا البيت عاجزة تماما عن رواية أى شىء على الاطلاق ..
والواقع أن السكون كان يخيم على كل شىء فى الصحراء والعمارة .. وكانت العمارات المتناثرة فى الحى أشد سكونا ..
وكان هذا السكون المثير يغرينى على التأمل والمتعة .. والجلوس كثيرا فى الشرفة .. ورأيت السيدة جارتى من الشرفة .. وكانت متوسطة العمر وتلبس ثوب الحداد .. وكان وجهها الأبيض المستدير تضيئه أبدا بسمة حلوة .. وكانت تقيم معها فتاة لفاء العود .. عيناها عسليتان .. وخدها يحمر كالتفاح كلما التقت بى فجأة ..
وعلمت من نفيسة أنها ابنة الجارة وأن لها ابنا آخر تلميذا فى الكلية الحربية ويأتى لزيارة الأسرة كل خميس .. ولم يكن فى بيتهم خدم ..
ورأيت الفتاة أكثر من مرة فى الشرفة .. وعلى باب المطبخ .. وركبت معى الأسانسير .. وكانت خجول تسيل رقة .. ولا تبرح البيت إلا لشراء الأشياء من السوق ..
أما الأم فقد تلقت جيرتى بترحاب ومودة .. فقد أبعدت عنها الروع الذى دمر أعصابها فان ابنها لا يأتى إلا فى الأسبوع مرة .. ولقد عاشت ستة شهور .. تأتنس فى الليل بصوت الكلب الذى ينبح على الناصية .. ولما فتحت عينيها ذات صباح على عربة العفش فى الشارع طارت من الفرح ..
وهكذا أصبحت للسيدة خديجة أكثر من ابن ولابنتها وداد أكثر من أخ ..
وفى خلال شهور أربعة .. امتزجنا حتى أصبحنا أسرة واحدة ..
***
وحدث فى أصيل يوم أن سمعت صراخا عند الجارة يأتى من المطبخ .. فجريت إليها وأنا أتصور أن النار اشتعلت فجأة .. ولكنى وقفت على الباب مسمرا .. فقد كانت وداد ملقاة على البلاط متخشبة .. وفى حالة صرع .. وأسعفناها فى مكانها .. حتى استفاقت ولكنها ظلت تبكى ..
وأخذت أمها تسألها عما حدث .. ولكن الفتاة لم تفتح فمها .. وكان الجواب بكاء أكثر ..
وأشرت على والدتها أن تحملها مع نفيسة إلى الفراش .. ولا تسألها عن شىء ..
وفى المساء سألت الأم :
ـ كيف حال وداد ..؟
ـ تحسنت كثيرا ..
ـ هل تشنجت من قبل ..؟
ـ أبدا هذه .. أول مرة ..
ـ هل هى مخطوبة .. وحدث خلاف بينها وبين خطيبها ..؟
ـ لا .. ليست مخطوبة .. ونحن كما ترى فقراء .. ومعاش الوالد يذهب كله فى تنشئة عادل ..
وعلمت من السيدة خديجة أن ابنتها وداد هادئة الأعصاب ومستريحة فى حياتها البيتية .. ولا تشكو بعد وفاة والدها من أى شىء .. لا ينقصها الحنان ولا المال ..
ومر يومان ونسينا الموضوع ..
***
وعصر يوم الأربعاء .. دخلت المطبخ فوجدت وداد هناك .. ولاحظت أنها لما سمعت جرس المطبخ امتقع لونها ..
ثم فتحت نفيسة الباب وتناولت قطعة من الثلج .. من الغلام ..
وكان من عادة وداد كلما رأتنى أن تنساب إلى شقتها .. ولكن فى هذه المرة بقيت فى بيتى .. ورأيت فى عينيها الراحة .. ونظرة الأمان ..
                                  ***        
وقابلت السيدة خديجة وابنها الطالب فى الحربية ووداد فى غروب يوم عند محطة الأتوبيس ولما رأتنى السيدة ابتسمت .. وقالت :
ـ نرافق عادل .. كل جمعة .. نركب معه الأتوبيس لغاية العباسية .. لكن النهاردة أنا تعبانه .. مش رايحة ..
ـ لازم نروح يا ماما ..
وابتسمت السيدة ونظرت إلىّ .. وضحكت .. وبعد ثوان كنا نضحك جميعا ..
وجاء الأتوبيس ..
فركب عادل ..
ـ هيا يا ماما ..
وركبت وداد ..
ـ والنبى تركب معاهم .. يا منصور يا بنى لغاية المدرسة أنا تعبانه صحيح .. حنتظركم فى البلكون ..
وركبت الأتوبيس دون أن أهيىء نفسى لهذه الرحلة ..
وعلى باب الكلية ودعت أخاها .. ولاحظت أنها متعلقة به كثيرا ..
ووقفنا عند كوبرى القبة ننتظر الأتوبيس ..
وطال انتظارنا ..
وأخيرا قلت لوداد :
ـ نتمشى لغاية منشية البكرى ..
ـ بل .. لغاية مصر الجديدة ..
ـ تستطيعين هذا ..؟
ـ طبعا .. وسترى ..
ومشينا فى الشارع الطويل تحت الأشجار .. وكانت المصابيح تلمع فى أرض الشارع المرصوف والسيارات الخاصة تخطف بجوارنا ..
وظللنا فترة طويلة صامتين ولم أجرؤ حتى على مجرد لمس يدها .. ثم تفتحت نفوسنا مع الهواء الطلق والليل الحالم .. وتحدثنا وتلامست أيدينا وتشابكت عن قصد .. وعن غير قصد .. ولقد شاء القدر الذى وضع هذه الفتاة فى طريقى .. ثم جمعنى بها فى هذه الليلة الحالمة .. ولم أكن أتمنى أكثر من أن نسير ونسير .. وخيل إلىّ بعد ربع ساعة أننا نركب زورقا ذهبيا وأننا نجدف فى بحيرة ساكنة .. وتلمع فى سمائها النجوم .. وعلى ماء البحيرة يتراقص الشعاع .. وأننى قد تركت المجداف مرة .. ورششت شعر وداد الذهبى بالماء .. فضحكت حتى اهتز صدرها ولمع لؤلؤ ثغرها ..
واستفقت من هذا الحلم على جرس دراجة تمضى مسرعة بجوارنا .. وشعرت بجسم وداد يلوذ بى وبيدها تضغط على يدى ..
وسألتها بصوت الحالم :
ـ خائفة ..؟
ـ لا .. وأنا معك لا أخاف من شىء ..
وسألتها وقد رجعنا نتحدث عن حياتها :
ـ لاحظت أنك تحبين عادل كثيرا ..؟
ـ أنه أملنا الوحيد .. وماما تحبه أكثر .. وأكثر ..
ـ شعور الأم طبيعى .. وهى من جيل مضى .. أما أنت فدعيه يكون شخصيته كرجل ..
ـ هذا ضعف فى بناء الأسرة المصرية .. مرض عام .. فماذا نفعل .. وأنت ألست تحب أخاك وأختك ..؟
ـ ليس لى أحد ..
ـ خالص .. مقطوع من شجرة ..؟
ـ مقطوع من شجرة ..
وسمعت زقزقة .. ثم غرغرة .. كغرغرة العصفور .. وهو يشرق بالماء .. ولم أسمع أجمل من هذا الصوت فى حياتى ..
ـ ونفيسة .. عندك من زمان ..؟
ـ عشر سنوات ..
ـ لكن دى ماتعرفش تطبخ خالص .. أنت تخرج من هنا لشغلك .. وهى تجرى على ماما .. تسألها عن أبسط شىء ..
ـ أعرف هذا .. ولكن الكمال فى هذا الصنف من النساء متعذر .. وأنا لا يعنينى الطعام .. بقدر ما يعنينى أن أنام فى أمان .. وهى تنام كما تعرفين فى البيت .. ويهمنى أن أطمئن على أنها لا تفتح الباب فى الظلام لرجل يخنقنى .. وأنا نائم ..
وجفلت وداد وضغطت على يدى .. وأنا أقول هذا ..
ـ وأنا أفكر فى أن أضع حدا .. لهذه الحياة .. أفكر فى أن أستقر .. وأكون أسرة ..
ـ وما الذى يمنعك ..؟
ـ كلما فكرت فى التنفيذ .. وجدت طاقتى تتجه إلى المشروعات .. فكرت أكثر من مرة فى أن أترك عملى فى الشركة .. وأنشىء مصنعا للصابون .. أو معملا للنسيج ..
ولما كثرت حركة البناء فكرت فى مصنع للطوب .. وعندما شحت الأدوية وارتفعت أسعارها فكرت فى مخزن للأدوية .. ولما ازدادت حركة الأعمال .. فكرت فى أن أكون مورد أنفار .. أفكر فى أى عمل حر ..
ـ هذا تفكير طبيعى لكل شاب يتفجر بالحياة ..
ـ وأنا أفكر الآن فى أن أحملك على ذراعى .. وأمضى بك بين السحاب ..
ـ ما هذا الخيال ..!!
وضحكت ..
وقلت :
ـ عندما كنت فتى صغيرا .. كانت تأتى لبيتنا فى الريف فتاة صغيرة حلوة اسمها وداد .. وكانت والدتى تقول لها بمجرد أن تراها .. تعالى يا وداد العبى مع منصور .. ولم أكن أتصور .. أننى سألتقى بوداد .. أجمل وأنضر بعد كل هذه السنين ..
ـ إن حياة الوحدة جعلتك شاعرا .. فماذا أقول ..
ـ ولكننى لست وحيدا الآن .. وما أحسبنى سأكون وحيدا بعد ذلك ..
ـ إنك لا تفكر فى القدر .. والحياة ..
ـ أفكر .. ولكن يجب أن نفكر أولا فى الشىء الذى نصنعه بأنفسنا ..
وكنا قد دخلنا فى مصر الجديدة واقتربنا من حينا فتمهلنا فى السير .. وسألتها :
ـ منذ متى تركت المدرسة ..؟
ـ بعد وفاة والدى مباشرة .. مضى أكثر من أربع سنوات ..
ـ ولماذا السواد .. بعد كل هذه السنين ..؟
ـ إنه مظهر خارجى .. لكننى الآن أشعر بأن نفسى لا ينقصها أى شىء تحزن عليه ..
ـ تحدث أشياء غريبة فى الحياة ..
ـ لقد كنت أول من رأى عفشك لما وقفت العربة التى تحمله على الباب .. ولم أكن قد رأيتك أو رأيت نفيسة .. ولكننى شعرت بفرحة .. فرحة عظيمة .. وتصورت أنه عفش عرس صاعد إلى البيت الذى أحبه ..
وأمسكت بيدها .. وظللنا صامتين .. وقلبانا يخفقان فى هذا السكون ..
وفى داخل بيتها كانت تود أن تقول لى شيئا .. ولكن شفتيها ارتجفتا .. فدخلت إلى حجرتها وتركتنى مع والدتها ..
***
وقبل منتصف الليل سمعنا صرخة وداد مرة أخرى ..
ولما فتحت عليها الباب كانت متخشبة فى المطبخ ..
ولم أستطع أنا ولا استطاعت أمها أن تعرف سبب هذا التشنج .. وانصرفت الأم بعد أن يئست .. إلى الأحجبة وزيارة الأسياد ..
وجعلنى هذا العارض أكثر تعلقا بالفتاة وشفقة عليها ..
فأصبحت أكثر من الجلوس معها والحديث إليها .. وامتزجنا فتلاقت عواطفنا .. وكانت تجرى إلى بيتى بمجرد عودتى من العمل ..
وكانت تأتى إلىّ فى أجمل زينة وأبسط فستان وتضحك وتمرح ثم أرى السهوم والوجوم على وجهها فجأة .. وأعجب لتغير حالها ..
وذات ليلة لاحظت وهى تحادثنى أنها تنصت بانتباه تام وقد جمدت سحنتها إلى جرس دراجة مكتوم فى الشارع .. ومشيت إلى الداخل كأنى أجىء بعلبة السجائر .. لأنظر من الشرفة .. ولكننى لم أجد أحدا .. وكان الظلام يخيم ..
***
وفى ليلة من الليالى .. وبعد أن غاب القمر .. سمعت صوت رجل يقول لنفيسة فى المطبخ :
ـ طلبت زبادى ..؟
ـ لأ ..
ـ أمال مين الست اللى بتنده ..
ـ مش عندنا ..
وبعد دقيقة سمعت جرس العجلة المكتوم فى الشارع ..
***
وكنا فى بيت وداد .. ذات ليلة .. وأمها تقص علينا حديثا ممتعا عن حياتها مع المرحوم وكيف منعها من التردد على حفلات الزار .. كلية .. عندما سمعنا صرخة مفزعة .. فجرينا إلى الشرفة .. ووجدنا الناس مثلنا قد فتحوا النوافذ ووقفوا فى الشرفات .. وكان الظلام رهيبا والصراخ يشتد ولا ينقطع .. كان عويل فتاة يمزق السكون كأنها تندب أباها ..
وفجأة برز شىء أسود ينطلق كالصاروخ .. على العجلة ..
ومن خلال الصياح دوت طلقة ..
وخيم بعدها السكون ..
ولم يعرف أحد من الذى أطلق النار .. قالوا أنه صاحب كشك .. الكازوزة سمع الصراخ ورأى الرجل يمضى كالسهم على الدراجة .. فأراد أن يعطلها عن السير فأخطأ الدراجة وأصاب الرجل .. وقالوا أنه والد الفتاة نزل إلى الشارع وأطلق النار ..
وعندما اقتربوا منه وجدوه ملقى فى الحفرة والدم ينزف .. وبجانبه الدراجة .. وكان معه سكين حادة .. وبجانبه سلطانية الزبادى مقلوبة وبها كان يتعلل ويصعد البيوت إلى فريسته ..
ووجدوا الفتاة التى قاومته بعنف ممزقة الملابس .. ومطعونة فى صدرها ..
ولما علمت وداد بما حدث للرجل .. ارتمت على صدر أمها وهى تبكى من الفرح .. ولم نسألها عن شىء .. ولم يعاودها التشنج قط بعد ذلك ..
ولكنها ظلت طول حياتنا الزوجية لا تدع بائعا من الطريق يصعد إلى بيتنا ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 252 بتاريخ 22/10/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الذئاب الجائعة " الطبعة الثالثة سنة 1961
=======================




    





النفوس المعذبة

     أنا أحد أولئك التعساء الذين اضطرتهم ظروف حياتهم إلى العيش فى الريف ، بعد أن قضوا جانبا من شبابهم فى المدينة ، ناعمين بلذائذ الحضر ومتعه .. لقد خلفت ورائى العلم والنور لأعيش فى جحيم الريف بظلامه وجهله ، هكذا شاءت الظروف وشاء القدر .. وليس أسفى على شباب ولى ، وعمر أدبر ، بقدر أسفى على أن السنين العشرين التى قضيتها من عمرى فى القرية ، مرت على منوال رتيب بغيض معذب .. لم يتغير شيء ولم يتبدل ، نفس الوجوه الكالحة الحزينة ، والأبدان الناحلة المريضة ، والنفوس المعذبة الشقية .. كل شيء لم يتغير .. الأكواخ الحقيرة القذرة تتناثر فى بطن الوادى كما تتناثر القبور عند سفح الجبل .. ولها مثل صمتها ووحشتها .. ولولا رغاء البهائم فى الغسق ، وعواء الكلاب فى الليل ، وصياح الديكة عند الفجر ، لخلتها مقبرة من المقابر .. إنها صورة باهتة لرسام مكتئب فقد فى الحياة كل أمل ..
       وزادنى بلاء وكربا موت زوجى ، وكانت أنيسى ورفيقى فى القرية ، فشعرت بعدها بالوحشة والانقباض والضجر ، ولهذا كنت أروح عن نفسى ، فازور أخى فى المدينة ، وكان مهندسا فى القاهرة ..
       بلغت منزل أخى ، فى تلك الليلة التى أروى لك حوادثها ، فى الساعة الثامنة مساء ، مع آخر مسافر اتجه إلى العباسية ، فقد أمرت الحوذى أن يأخذ بعنان جواده ، لأمتع بصرى بأنوار القاهرة ومحاسنها ..
       جلست فى بهو المنزل أنفض عنى غبار السفر ، وأستريح قليلا .. وملت بأذنى إلى حيث تقيم الزوجة .. زوجة أخى .. التى كانت تستقبلنى دائما بفتور المدنية التى تنظر إلى الريفى فى احتقار وتقزز ، على الرغم من كل ما كنت أحمله معى من هدايا ونعم .. وكانت تقول لزوجها ، إنها تشتم رائحة الدريس كلما اقتربت منى ..! ولهذا تود لو تنفضنى بالمكنسة ..! وصحيح أننى كنت أبصق احيانا على الأرض ، وأحول دورة المياة إلى بركة أسنة ، ولكنى كنت مع ذلك أفنديا مهذبا من طراز لا بأس به ..!  وكنت أعجب غاية العجب لنفورها الشديد منى ، ورفع أنفها فى السماء كلما التقت بى ، كأنى أجرب أو مجذوم أو مقطوع الأنف ..؟ وكأنها هابطة من السماء ..! وكنت أبادلها عواطفها .. احتقرها ، وأنفر جدًا من الأحمر الصارخ الذى تلطخ به شفتيها وخديها ، وتلوث به أظافرها .. وأنظر إلى أصابعها ، وهى جالسة إلى مائدة الطعام ، وأعجب ، وأسائل نفسى كيف تسوغ لنفسها الأكل معنا ..؟ ومن عجب أنه على الرغم من كل ذلك ، وما كان بينى وبينها من نفور واحتقار متبادلين ، فقد كانت تتجمل أمامى وتتصنع ، وتبدى زينتها ما خفى منها وما ظهر ، وكنت كريفى ساذج أجهل السبب ، ولا أعرف أن المرأة المتفرنجة تبدى زينتها دائما لغير بعلها ..!
       عجبت للصمت الذى خيم على المنزل .. بيد أنى سمعت بعد دقائق إسماعيل يتحدث فى المطبخ .. ولم يكن يحادث نفسه بالطبع ، على الرغم من أن هذا يحدث له كثيرًا ! .. وأنصت .. فسمعت صوتا ناعما متكسر النبرات .. صوت إمرأة .. ولكنه ليس بصوت إحسان هانم .. هل تزوج أخى مرة رابعة ، وطلق هذه المرأة الملعونة ..؟ لله الحمد ..
       تنفست الصعداء ..! وصفقت هاتفا بإسماعيل .. صفقت كما لو كنت أصفق فى بيتى فى القرية ، ونسيت الجرس الكهربائى المتدلى ، الذى كانت إحسان هانم تأمرنى باستعماله ، كلما عنت لى حاجة ، وطلبت الخدم .. وكانت تقول الخدم دائما ، مع أنه ليس فى بيتها إلا خادم أعرج أبله .. فما من إنسان يستطيع الصبر على خدمتها .. وكانت تقول دائما إن الخدم يجلبون معهم القذارة من السوق ..!
       صفقت مرة ثانية .. وجاء إسماعيل يطلع .. فسألته عن سيده فأخبرنى بأنه سافر مع الست إلى الإسكندرية ، لأن والدة الست ماتت ..! وعلى الرغم من أن المرحومة ظلت عشرين عاما تنعتنى بأقبح النعوت ، وتقول لزوج ابنتها إنى مستول على الإرث كله ، وآكله فى بطنى ..! ولا أدع لإخوتى شيئا ، ولا أعينهم بسحتوت .. فإنى قرأت الفاتحة على روحها .. وطلبت من الله أن يسكنها فسيح جناته ..! والواقع أن الجفاء بينى وبين المرحومة بدأ فى الوقت الذى يئست فيه نهائيا من زواج ابنتها الصغرى منى ، بعد أن تزوج أخى بإحسان هانم – كما كانت تنعت نفسها دائما ـ  أخذت المرحومة بعد زواج أخى ترمى حولى الشباك لتوقعنى فى المصيدة ، كما صادت أخى .. ولكنى كنت أبرع من أن أقع فى الفخ .. فأفلت من يدها .. وظلت بعد ذلك عشرين عاما تطلق لسانها الطويل فى وتقبح زوجى المسكينة ، وتحث أخى على أن ينفصل .. ويدير شؤونه بنفسه .. ولكنه كان أضعف من أن يفعل ذلك ..!  اضطجعت على الكرسي ، وأنا أفكر فى القطار الذى سيقلنى إلى الإسكندرية لأعزى .. وشعرت ببعض الكآبة لأننى سأضيع يوما من أيام تنزهى فيما لا يجدى ..! وسمعت حركة أقدام خفيفة .. ووقفت أمامى فتاة فى ثوب أبيض .. تقدم لى القهوة .. ورفعت عينى إلى وجهها الجميل .. نظرت إليها نصف دقيقة كاملة ، وفمى مفتوح من الدهش .. سبحان الخالق العظيم .. تناولت قدح القهوة من الفتاة ، ووددت لو أتناول يدها لأشد عليها بحرارة ، أو أقبلها كما يفعل الحضرى تمامًا ..
       وسألتها ، وعيناى تلتهمان وجهها المضطرم خجلا :
       - مصرية يا بنيتى ..؟
       - أيوه .. يا سيدى ..
       وتراجعت إلى الوراء خطوتين ومدت قامتها ، وعيناها تلمعان من خلال أهدابها الغزار ..
       وأخذت أحتسى القهوة على مهل وأفكر .. وأسائل نفسى .. هل الفتاة ، وهى آية من آيات الله فيما صور من حسن ، وصيفة ..؟ خادم .. لتلك المرأة الورهاء الدميمة .. التى لا أشبهها إلا بعود الذرة ، فى يبسها وتعرى عظامها من اللحم ..! هل هذه خادم لزوج أخى ..! يالسخرية الحياة .. ويالقسوة المجتمع ..
       ناولت الفتاة القدح الفارغ شاكرا ممتنا ومشيت إلى غرفة سيدها لأخلع ملابس السفر .. ولقد كنت دائما أنام فى هذه الغرفة كلما زرت القاهرة ، لأبين لإحسان هانم مبلغ سطوتى على زوجها ..!
       وعدت إلى مكانى فى البهو .. والفتاة واقفة أمامى .. تؤنسنى بحديثها العذب .. وعلمت منها أن لها شهورا ثلاثة فى المنزل .. وأن سيدها طيب بعكس سيدتها .. وأنها لولا سيدها لغادرت المنزل من أول ليلة .. وكانت تتبسط معى فى الحديث وتسمينى بالسيد الكبير ..! وفهمت من حديثها أنها تعرف الكثير عنى .. فكلما جاءتهم صفيحة من السمن .. عرفت مرسلها .. عرفت أنها من سيدها الكبير فى القرية ..!
       وتعشيت وخرجت إلى ملهى فى قلب المدينة .. وصورة الفتاة حورية – كما كان يسميها إسماعيل – لم تزايل مخيلتى ..
***
       كان الليل فى أخرياته عندما فتحت لى الفتاة الباب .. فقد بقيت ساهرة تنتظرنى .. ونام إسماعيل فى غرفته فى السطح .. وشكرت الفتاة على تعبها وتحملها مشقة السهر لأجلى .. وشعرت بعد وقت قصير بالسكون المطلق .. هدوء الصحراء .. فلا همس ولا حس .. فأنا وحيد مع حورية فى المنزل .. بل وحيد معها فى شرق العباسية كلها ، بل فى الصحراء جمعاء ..
       جلست على كرسى طويل ذى ذراعين ، والفتاة معتمدة براحتها على خوان للملابس .. تحادثنى ، وهى فى لباس أزرق مطرز الأطراف .. وشعرت بسعادة لا توصف ، ونسيت الريف بظلامه ووحشته .. وأدركت أن النعيم المقيم فى هذا المنزل .. وظلت الفتاة تحادثنى إلى أن قرأت النوم فى عينى .. فحيتنى وانصرفت إلى غرفتها ..
       واستيقظت مبكرا فى صباح اليوم التالى .. على رنين الجرس وهو يدوى فى إزعاج ، وقامت الخادم مذعورة .. وفتحت الباب فإذا به أخى وزوجه ، وقد أقصرا وعادا من السفر .. يالله .. شعرت بقلبى يغوص فى قدمى عندما وقع نظرى على هذه المرأة ..!
       حيتنى فى فتور ، وعيناها ترميانى بالنظر الشزر .. على الرغم من أنها تلبس السواد وتتظاهر بالحزن .. فلو كانت حزينة لكسر الحزن من حدتها .. ولكنها لم تكن أمامى إلا نمرا أرقط ..!
       وأفطرنا .. وراعنى وأفزعنى .. أنها ظلت طول وقت الطعام ترمى الخادم المسكينة بقذائف من الشتائم البذيئة .. والبنت الفاضلة لا ترد عليها ، بل تخفض بصرها فى صمت وألم ظاهرين ..
       واستمرت هذه المعركة من الشتائم الوقحة .. طول مدة وجودى معهم ، وكانت تتعلل بأتفه الأشياء لتثير عاصفة فى المنزل .. فإذا أصاب السيدة المصون صداع .. فحورية هى السبب ..!  وإذا توعك مزاجها .. فهى السبب أيضا .. وهكذا ..! والويل لها إذا كسر طبق ، أو تهشمت إحدى الأوانى الزجاجية .. فإلى الجحيم هى ومن جاء بها ، ولا سبب لهذا العراك المستمر .. هذا العراك الأبدى .. سوى أن السيدة قبيحة دميمة .. والخادم جميلة فاتنة .. هذا هو السبب ، ومن الغريب أن أخى النطع ..! – وقد كان نطعا على الرغم من أنه كان مهندسا بارعا – لم يدرك سر هذه المعركة .. ولم يحاول أن يدافع عن هذه النفس المعذبة بكلمة .. وكان إذا استفحل الأمر ، وانقلبت الشتائم البذئية إلى ضربات موجعة .. رأيته يفتح فمه ، فأنظر إليه بجانب عينى لأحميه على الكلام والتدخل .. ولكنى أراه يفتح فمه كالأبلة ، ولا ينبس ، ثم يأخذ وجهه فى الإصفرار ..! ولاشك أنه أحب هذه النفس المعذبة ، وهو الذى جاء بها .. وكان يعيدها كلما طردت ليمتع نظره بها .. ويخفف عن نفسه بعض ما يعانيه من زوجه ..!
       نظرت إلى الفتاة المسكينة فى حسرة ، وأخذت أسائل نفسى ، كيف أنقذها من هذا البلاء .. وهب أنها خرجت من هذا المنزل ، فمن المحتمل جدًا أنها تقع فى براثن نمرة أخرى كهذه ، أو ذئب من الرجال فيفترسها ناضجة .. ماذا أعمل لإنقاذها .. وليغفر لى الله ما تقدم من ذنبى وما تأخر ! .. لماذا لا آخذها معى إلى القرية .. ومثلها من يؤنسنى فى وحشتى ، ويجعل الريف فى عينى جنة ..
       وفكرت طويلا فى الأمر .. وأفضيت إلى أخى بما استقر عليه رأيى ، فنظر إلىّ ضاحكا وحسبنى أمزح .. فلما تبين أن الأمر جد ، عاد إلى بلاهته ودهشه ، وفتح فمه وصمت ..!
       ورأيت أن يتم القران فى بيت أخى لتموت زوجته من الكمد ..! وفى المساء تم العقد .. وظلت زوجة أخى محتبسة فى غرفتها تتميز من الغيظ .. أما حورية فقد كانت فى حفل من الزينة .. كانت فى جمالها وفتنتها كأنها حورية من الجنة ..!!
=======================================
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
=========================================  




















رجل مريض

       عرفت توفيقا أفندى من عهد الحداثة ، وكان رجلا حائراً ، دمث الطباع ، لين الجانب إلى حد الخور .. ولهذا ظل فى الأرض على غير هدى ولا أمل ، ويعيش على هامش الحياة أبدًا .. وساءت حاله ورق عيشه على مر السنين ، إذ لم يكن يستطيع أن يؤدى عملا بعينه ، حتى على أضعف وجه .! فكان أبدًا برما بالحياة قلقاً نزاعا إلى القنوط ، يتصور أن العالم كله يحاربه فى رزقه ، وأن شياطين الأرض ، وملائكة السماء تتعاون على سحقه ..! .. اشتغل مدة من الزمن مدرسا فى مدرسة أهلية ، ثم اجتوى هذا العمل بعد أن تبين أن عليه أن يستيقظ كل صباح قبل السادسة ..! وعمل فى إحدى الصحف اليومية ، ثم رأى أن هذا العمل يستغرق جل نهاره ، وبعض ليله ، فنفض يده منه ، وركن إلى الدعة ، وعاد يتشرد ..! وثبت فى إحدى المكتبات العامة ، وكان هذا العمل منتهى مناه ، على أن القلق كان دائما ينزع به إلى التمرد ، فترك هذا العمل وفى نفسه حسرات .. وسمعت بعد ذلك أنه لم يزاول عملا بعينه ، وأنه ظل كالطائر المهيض الجناح ، يزحف على ساقيه كلما شعر بحاجة بطنه إلى الطعام ..
       وكان قد تزوج منذ عامين ، ودفعه الزواج فى أول الأمر إلى النشاط والحمية .. ثم فاء إلى نفسه وطبعه وعاد يتبطل ..!
       وكان يزورنى فى منزلى الصغير فى ضاحية من ضواحى القاهرة ، عصر كل خميس ليرتب مكتبتى ، ويحمل لى ما يتسوقه من الكتب القديمة .. وكان للرجل ولع غريب بنظام المكتبات ، وكان يقول لى إن الفقر هو الذى قعد به عن السفر إلى ليبزج ليدرس فن الطباعة ، ونظام المكتبات ، وكان يعرف أننى رحالة جبت كثيرًا من البلاد ، ولهذا كان يستمع إلىّ وأنا أصف له ما شاهدت فى أوربا بعين شكرى ، وكان يقول لى إن أمنيته الوحيدة هى أن يدخر بعض المال ليسافر ويحقق رغباته .. ولكنه كان عاثر الجد أبدًا لا تتحقق له أمنية .. وكان يقول لزوجه إن الله رماها به ليمتحن إيمانها .. وأنه من نكد الدنيا أن تقع زوجة جميلة مثلها فى بيت رجل معدم مثله .. على أن زوجه كانت تطيب خاطره وتقول له إنها سعيدة بفقره ..
       وكنت أسمع عن هذه المرأة كثيرا ، وأعرف أنها آية الله فى خلقه ، وأنها مع جمالها ونضارتها ، حسنة التدبير ، تصنع له الغذاء الكامل بقروش قليلة ، وتعينه على الحياة البسيطة ، وتدفعه دائما إلى العمل ، ولكنه كان حائرا ، ضعيف العزم مترددا لا يستقر على حال ..
       ولما قامت الحرب أغرته امرأته بالتجارة فتاجر .. ولكن الحظ العاثر ، وضعف الحيلة لازماه ، فأفلس بعد شهور قليلة من عمله .. ولعله التاجر الوحيد الذى أفلس فى هذه الأيام ، وكادت هذه الضربة تكون قاصمة الظهر له ، لولا أنه تجلد وتماسك واستسلم لأمر ربه ..
***
       وكان قد انقطع عن زيارتى بعد إفلاسه ، حتى تصورت أنه قضى ، أو انتحر ، وإذا به يزورنى فجأة فى ليلة من الليالى ، وهو على حال من التعاسة لا تصور .. كان رث الثياب ، زرى الهيئة ، ضامر الوجه أصفره . وعلى جبينه خطوط وأخاديد ، وحول عينيه دوائر زرقاء .. ومن فمه تفوح الخمر .. وجلس أمامى صامتا على غير ما ألفته .. وكنت فى كل مرة يزورنى فيها لا أحفل به كثيرًا ، أتركه يعبث فى الكتب بعد أن أقدم له القهوة .. وأعود لعملى .. وكان يعرف أنى بطبعى رجل مستفرد صامت لا أحب الثرثرة ، ولا أصبر على مجالسة ثرثار ، ولهذا كان يغب فى الزيارة ويقصر .. ولكننى فى هذه المرة احتفيت به على غير عادة ، وأخذت أرد عليه بعض مرحه الذاهب ، وأتلطف معه فى الحديث مداعبا .. ولكن الرجل كان على غير استعداد لذلك .. كان كأنما أصابته ضربة قوية على يافوخه فظل مطرقا لا ينبس ، فتركته على حاله ، وعدت إلى كتبى ، واستغرقت فى المطالعة حتى نسيته .. ثم سمعته على حين غفلة ينادينى ، فرفعت وجهى عن الكتاب .. فألفيته واقفا فى نهاية الغرفة ، عند نافذة صغيرة تطل على النيل ، وعلى وجهه ابتسامة عريضة ..! فنظرت إليه مدهوشا ..! وسمعته يقول :
       - نسيت يا أخى .. أن أقول لك إن نعمات هانم تسلم عليك ..!
       فسألته :
       - ومن هى نعمات هانم هذه ..؟ 
    - زوجتى .. يا أخى ..!
       ففتحت فمى من الدهش .. واستطرد وهو يقول :
       - كانت تقول لى دائما .. لماذا لا تجئ بصادق أفندى .. لماذا لا تدعوه إلى زيارتنا مرة .. سأصنع له فطيرة من التى يشتهيها بقلبه .. ولكنى كنت يا أخى أخجل من أن أحدثك برغباتها ، لأنى أعرف أن وقتك من ذهب .. ولهذا كنت أتردد فى هذه الدعوة .. وعلى الأخص لأن منزلى بعيد .. فما الذى يدعوك أن تنتقل من هنا إلى أقصى روض الفرج .. لتزور إنسانا مهملا مثلى .. ولكنها كانت تلح علىّ أبدا ، لأنها تسمع عنك كثيرا .. وتود أن تعرفك .. ولهذا فكرت فى الأمر على وجه آخر .. أنسب لك .. فقلت فى نفسى أن صادق أفندى يعيش وحده عيشة مرة .. مستفردة .. ولا يجد من يصنع له طعامه .. فإذا جاء بخادم لا يمكث عنده أكثر من أسبوع لأنه يسرق ملابسه وكتبه ويهرب .. وحياته الغريبة تغرى الخدم بالسرقة .. وكيف لا يسرق الخادم وهو لا يرى سيده إلا فى ساعات قليلة من النهار .. ولهذا قلت لماذا لا تجئ نعمات .. إلى هنا .. لتصنع لك طعامك وتهيئ فراشك وتقوم بكل ما يلزمك .. لماذا لا تفعل ذلك .. والآن ما رأيك يا أخى فى أن تجئ من الغد ..!
       فأطرقت برأسى ، ولم أكن أتصور أنه يصل إلى هذا الحد من التدهور .. وبدا لى فى صورة نكراء بشعة .. وكانت عيناه قد لمعتا وابتسامته غدت أبدية ، ورائحة الخمر تفوح منه بشكل مقزز .. واتخذ هيئة الرجل النافض يده من أعباء الحياة جملة ، والذى استهتر بكل شيء ، وما عاد يحفل بأمر ..
       وتقدمت إليه .. ووضعت يدى على عاتقه .. ونظرت بقوة إلى عينيه وقلت له :
       - أنا أعرف أنك تمزح .. لقد دارت فى رأسك الخمر ..
       فأطرق لا ينبس ، وظل على ذلك مدة طويلة .. ثم أخذ جسمه ينتفض ، واستخرط فى البكاء .. وانتابته نوبة عصبية .. فتركته على حاله حتى تهدأ ثورة أعصابه ويثوب إلى نفسه ..
       ومضت لحظات صامتة كئيبة شديدة الوقع على النفس .. ثم رفع وجهه إلىّ وكانت عيناه تفيضان بالدمع .. وقال بصوت خافت :
       - لا تصدق ما قلته لك يا أخى .. عن زوجتى .. أنا أعرف أنك كريم النفس .. لا تقبل ما عرضته عليك .. ولذلك لذ لى أن أمثل هذا الدور أمامك .. ولا يمكن .. ولا تتصور أننى أقول هذا الكلام .. لأى إنسان آخر .. إنه الفقر يا أخى الذى يقتل كل شيء فى الرجل .. كل الإحساسات النبيلة ، التى تقرأ عنها فى بطون الكتب ، يقتل فيه ، الكرامة ، والرجولة ، وكل ما يتميز به الإنسان .. فيستجدى .. ويتدهور إلى ما رأيت .. ويجعله أحيانا أجبن من كلب ..! وأحيانا أخرى يغريه على التوثب والتوحش ..
       ووضعت يدى على عاتقه ، وأخذت أحادثه ، وأطيب خاطره ، حتى سكن ثائره ..
       وخرجت معه إلى بعض المطاعم فتعشينا ، وملأ معدته الفارغة ، وابتعت له هدية جميلة لزوجه ..!
       وتركنى وهو مسرور طروب .. ووعدنى بأن يسافر ، بعد الحرب ، إلى ليبزج ليدرس فن الطباعة ونظام المكتبات ..
ــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
____________________________ 


فى القرية

كنا نستيقظ فى الساعة الخامسة صباحا .. حتى فى أشد أيام الشتاء برودة ، وأقساها زمهريرا ، ونتخذ طريقنا إلى الحقل متثاقلين ..
كنا خمسة عشر رجلا من قرى مختلفة ، جمعنا عمل واحد فى قلب الصعيد ، كنا من العمال الأجراء الذين يسعون فى الأرض طلبًا للرزق ، أينما وجدوا للعمل سبيلا ، وللرزق موطنا ..
كنا من هذه المخلوقات البشرية التى كتب عليها الشقاء الأبدى فى هذه الحياة الدنيا ، والذين ولدوا فى ليال لا يلوح فيها نجم ، ولا تبدو بارقة من سعود .. !
وكانت الأيام تمضى بنا من سىء إلى أسوأ ، ولكن على الرغم من ضنك العيش ، وشدة الفاقة ، وبلاء الأيام ، فقد كنا قانعين بنصيبنا من العيش ، وحظنا من الحياة ..
كان الواحد منا لا يحصل على أكثر من ثلاثة قروش فى اليوم ، نظير العمل اثنتى عشرة ساعة فى الحقل .. وكنا نعمل بين الشادوف ، وسقى الأرض وعزقها ، من فجر اليوم ، إلى مغرب الشمس ، وطعامنا لا يعدو الخبز الأسود والبصل، وما تنبت الأرض من بقل ، ومع ذلك لم نكن نشكو نصبا ، ولا مرضا .. وكنا نعمل تحت الشمس ، ونصلى نارها طول النهار ..
وكانت ساعات الظهيرة ، فى قلب الصيف ، هى شر ما يمر بنا من الساعات .. حين تشتد الهاجرة ، ويركد الجو ، ويلتهب قرص الشمس .. كنا فى تلك الساعة نشعر بضنى شديد وعذاب لا يطاق ..
كانت الأرض المتقدة تلهث كما يلهث الكلب المضروب ، وتزفر من عذاب السعير ، والشمس تحمى حتى يلتهب كل شىء ، وتتحول دقاق الحصى إلى جمرات من نار .. فإذا أصابت باطن القدم ، كوته بنارها وشققته ورسمت فيه أخاديد .. !
وويل للذين كانوا يعزقون الحقل فى تلك الساعة من النهار .. كانوا يختنقون بين عيدان الذرة ، ويجودون بأنفاسهم فى بطء وعذاب .. وكان الذين يعملون فى الشواديف ، أسعد من هؤلاء حالا ، وأخف حملا ، لأنهم أقرب إلى الماء ، وأجسامهم شبه عارية ، وهى إن كانت تتصبب عرقا ، ولكنها لا تحمل غبار الأرض وحرقة الرمضاء ..
وكان الذين يسقون الأرض يحسون بلظاها من تحتهم ، كلما جرت عليها المياه ، كانت تخرج أنفاسها الحارة الملتهبة ، فيزداد الجو وهجا وسعيرا ..
***
كان الجهد الذى نبذله فى الشادوف جبارًا ، وكان يجرى الدماء فى عروقنا ، ويصبب العرق من أجسامنا ، وكان هذا العمل الشاق تحت لفح الشمس ، فى جو طلق ، يفيد أجسامنا من حيث لا نحتسب ، ويعوضنا عن غذائنا الردىء ، وحياتنا الشقية .. فكنا نشعر بقوة سواعدنا وقوة عضلاتنا .. وكنا نرتدى أقمصة زرقاء قصيرة ، ونعرض أجسامنا لكل تقلبات الجو ، لنأمن عادية المرض ..
كنا نجرى على حكم الفطرة السليمة ، فلم نكن درسنا الطب ، ولا تعلمنا فك الخط ، ومع ذلك كان نظرنا إلى الأمور صائبا ، وإدراكنا صحيحا ، وإيماننا باللّه ليس بعده إيمان ..
ولم يكن هناك ما يكدر صفو عيشنا ، كنا نعمل متعاونين متساندين كأحسن رفقاء ، وكان أحد الرفقة حلو الصوت شجيه ، فكان يرفع عقيرته ويشدو .. وكنا نشدو وراءه فى صوت مؤثر يأخذ بالألباب ..
وكانت الشواديف على ثلاث درجات ، ويعمل فى كل قسم ثلاثة رجال ، فى كل درج رجل .. وكنا ثلاثة صفوف متراصة ، فكانت هذه الشواديف التسعة وهى دائرة فى وقت واحد ، كأنها النواعير الباكية فى البساتين ، كنا ننسى على وقع صوتها كل تعب وجهد ، ونزداد حماسة وقوة .. ونتسابق فى نقل المياه بالدلاء من درج إلى درج .. وكان الذى فى الصف الأول يتحمل ثقل العمل كله ولهذا كنا نتبادل هذا المكان ..
كنا عدولا بالفطرة ، لأننا كنا فقراء بؤساء ، ولم يكن هناك ما يحملنا على الطمع .. ! وكانت المراكب الشراعية التى تشق النيل بصدرها تمر تحت شواديفنا ، فكنا نلوح للملاحين فيها جذلين فرحين ، ونرفع صوتنا بالغناء والنشيد مثلهم .. وأطيب ما يكون الغناء ساعة الصبح ، وعند الغسق ، فى الساعة التى يسكن فيها كل شىء ويسجو ..
كانت الأيام تمضى رتيبة ، وكنا ننتقل من الحقل إلى القرية ، وننام فى منزل صغير اكتريناه بعرق جبيننا ، واختزنا فيه طعامنا .. ولقد كان المنزل أشبه بزريبة الحيوانات التى بجوارنا .. ومع هذا فقد رضينا بقسمتنا فى الحياة ، ونصيبنا من العيش ، وكنا سعداء .. !
***
كان بجوار الشادوف الذى أعمل فيه طريق صغير يفضى إلى ساحل النيل ، وكانت النسوة فى القرية يتخذنه طريقا لملء جرارهن من النيل فى فجر كل يوم وأصيله .. ولما كنا نعمل شبه عراة فى الشواديف ، فقد كانت نساء القرية يسدلن خمرهن على وجوهن كلما اقتربن منا ، ويتجنبن النظر إلى ناحيتنا ، ومع ذلك ، فقد كانت الحماسة تبلغ بنا أشدها عندما يردن الماء .. كان كل منا يحاول أن يسبق الآخر فى نزح المياه التى تحته ليظفر باعجابهن .. ! وكن أحيانا يرميننا بنظرات جانبية سريعة .. ولكنها كانت عطشى .. كانت أجسامنا العارية ، وعضلاتنا المفتولة تثير فيهن الإعجاب الكامن ..
كنت أشد الرفاق ساعدا وأقواهم عضلا ، وكنت ألاحظ أن فتاة تجىء ساعة الغروب وعند الطفل .. عندما يغيب قرص الشمس وراء الجبل ، كانت تطلع هى علينا .. فيخيل إلينا أن الشمس لا تزال طالعة .. ! وكانت من دون النساء جميعا، تهل علينا سافرة تاركة نفسها على سجيتها ، فلم تكن تتصنع فى مشيتها ، ولا فى لفتتها ، ولا فى نظرتها ..
وكنت أتعمد أن أكون فى الساعة التى تجىء فيها فى آخر درج من الشادوف ، عند الماء ، لأكون بالقرب منها ، وهى تملأ الجرة .. كانت تدع الجرة على الشاطئ هنيهة ، وتجلس محدقة فى الماء ، كأنها ترى وجهها فى صفحته .. ثم تتناول الجرة بيدها اليمنى ، بعد أن تشمر عن ساعديها وتنزل إلى الماء ، رافعة ثوبها عن ساقيها قليلا .. قليلا .. حتى يبلغ الماء قصبة الساق .. ! فتنحنى على الماء وتملأ الجرة ، ثم تعود إلى الشاطئ ، وترسل ثوبها ، وتنتصب ، وهنا يبدو عودها اللدن ، ووجهها المشرق ، وشعرها الغدافى الجثل المرسل وراء ظهرها ، والذى يكون هالة لجبينها ..
كانت كإحدى عرائس البحر التى نسمع عنها فى الأساطير ، وكأنما جعل اللّه كل فتنتها فى عينيها ، فكانت عندما تأخذ فى رفع الجرة على رأسها ، تتلفت نحوى كما يتلفت الظبى الشارد .. ! كنت فى تلك اللحظة أنتفض ، وأنحنى على الشادوف ، ثم أرفع رأسى ، وأرمى بالدلو إلى القناة فى عنف .. ! وكانت هى ، فى تلك الساعة ، تصعد المنحدر إلى الطريق ، فأرى ثوبها ، وهو ينثنى على ظهرها ، وأشيعها ببصرى حتى تتوارى عنى .. ويزحف الغسق ، فنخلع الدلاء ، ونأخذ طريقنا إلى القرية .
***
كنا غرباء عن القرية ، وكان المنزل الذى نكتريه فى ناحيتها الشرقية ، وكان أقرب منازل القرية إلى الحقل ، فلم نكن ندخل القرية ، أو نرى سوقها إلا قليلا .. ولهذا ما كنا نرى من النساء إلا أولئك اللواتى يجئن ليملأن الجرار ساعة الغروب وعند الفجر .. فكن سلوتنا وبلسم أحزاننا .. وعلى الرغم من أن واحدًا منا لم يحادث واحدة منهن ، فقد كنا جميعا نشعر بسعادة تهز مشاعر الإنسان ، كلما سمعنا حسهن ، ووسوسة حليهن .. !
وأخذت الفتاة على توالى الأيام تبادلنى النظرات ، وتتمهل فى سيرها وهى نازلة إلى النيل ، أو صاعدة إلى الطريق ، لأملأ عينى منها ، وكنت أشعر بلذة تهز كيانى كلما ارتوت عيناى من حسنها ..
وكانت تتخلف أحيانا فى بعض الأيام ، فأشعر بالوحشة والقلق ، وأحاول أن أسأل الناس عنها ، وأظل على أحر من الجمر حتى تعود .. ! فأعود معها إلى عملى بنشاط وقوة .. ! أصبح كل شىء فىّ معلقا بها .. وكنت محروما .. مرت علىّ سنوات عدة لم أتصل فى خلالها بامرأة ، فكنت أحس ، كلما وقع بصرى عليها ، بسعار يسرى فى ألياف لحمى ولهب .. ! وكانت على مر الأيام قد عرفت حالى .. وأدركت بغريزتها ما أعانيه فى سبيلها ..
فكانت تتأخر عامدة إلى ما بعد الغروب ، وتروح وحدها محاذية الحقول ، وعلى رأسها جرتها ، وكانت تسير متهادية متباطئة ، حتى تبلغ جسر القرية ..
وكنت أقف على رأس الحقل ، وأرسل وراءها بصرى ، وهى مولية عنى فى غبش الغسق .. كانت كعروس البحر ، وهى سائرة وحدها فى أول الليل ، كانت أنفاس المزرعة تتعطر ، والجو كله ينقلب رخاء سجسجا ، ونسيما لينا يداعب الوجوه ، والقرية تستقبلها ضاحكة ، كأنها تستقبل عروسها ، وبنتها البكر .. !
كان كل شىء يضحك ويبتسم فى وجهها ، وكان رفاقى فى الحقل يحدجونها بعيونهم ، ويرمونها بنظراتهم النهمة ، وهى سائرة وحدها بجانب الحقل .. ولكن أحدًا منهم لم يكن له مطمع فيها ، ولا أمل .. !
وكثيرا ما كانت تقف على رأس المنحدر ، وترمقنا ونحن نتسابق بالدلاء .. فإذا ما كانت الغلبة لى انثنت عنا ، وهى ترسل إلىّ أعذب ابتساماتها .. ! كنت أشعر بقوة غريبة كلما رأيتها ، وأود لو أنزح ماء النيل كله فى غمضة عين ..
***
وتبعتها ذات مساء وهى متروحة وحدها .. سارت على الجسر ، وقبل أن تبلغ منازل القرية انحدرت عنه ، ومشت متمهلة فى طريق صغير بين الحقول.. وهى تلوح بساعدها الأيمن فى الهواء .. وتضع يدها اليسرى على بطن الجرة ..!
وخرجت من الحقول إلى عرصة فسيحة ، وبدت أمامى ، فى ناحية من العرصة ، بيوت من الشعر .. أخبية متناثرة على غير انتظام .. لم أشاهد هذه الأخبية من قبل ، مع أنى مررت على الجسر أكثر من مرة .. ! ولعلى لمحتها فى صورة سريعة لم تطبع فى مخيلتى ، ككل شىء لا يعنينا فى هذه الحياة ..
جلست على حافة الجسر أرقب خباءها ، وخباء من معها من قومها وكانوا عشرة أو يزيدون .. فيهم كثير من الأطفال ، وقليل من الرجال .. ونساء غيرها ، ولكنها كانت أشدهن فتنة وأخذا .. وكان مع هذه القافلة غنم وعنزات .. وبط ودجاج يرعى فى كل مكان ثم أتانان مهزولتان .. لا شك أن عليهما حمل متاع هذه القافلة إلى حيث تمضى .. !
نظرت إلى هذا كله .. وأدركت أنهم من الغجر الذين يخيمون كثيرا فى هذه القرية ، ثم يقوضون خيامهم ، ويرحلون عنها بأسرع مما جاءوا .. سررت وتألمت فى آن .. وأخذت أراقبهم ..
ومع أن الليل لم يكن قد أسدل غياهبه ، ونشر ظلامه ، فإنهم كانوا يوقدون النيران فى أكثر من مكان واحد .. ويهيئون العشاء فى قدور تغلى ، ويتصاعد من تحتها الدخان .. ! ورأيت فى ناحية من المكان عجوزا ، براقة العينين ، تحرك بيدها مجرافا طويلا ، وتذكى النار فى الموقد .. وعينها على جدى يناطح خروفا .. ! وامرأة قصيرة القامة تلقى بعض الحشائش للعنزات .. وأخرى ترضع صغيرا .. وصبية يتصايحون .. بين البط والدجاج والكلاب ، التى لم يكن فيها كلب واحد ينبح ، أو حتى يحرك ذنبه .. !
وكان هناك رجل كث الشارب ، أحمر البشرة ، له وجه شيطان وجسم ثور ، يفتل حبلا طويلا من الليف ، ويصعد بصره فى السماء من حين إلى حين ..
وكانت صاحبتى قد دخلت الخباء ، ثم خرجت منه ، وتبادلت مع ذلك الثور الضخم بضع كلمات .. ثم انتبذت ناحية ، وجلست وحدها ساكنة ، وعينها إلى نخيل القرية السامق ، وهو يتمايل مع نسيم الغروب ..
***
كنا نسقى الأرض العالية من الحقل ، وكانت القناة الرئيسية ممتلئة إلى حافتيها بالماء ، وكنت أمر عليها ، وأقوى الأماكن الضعيفة منها ، وأعمق القاع ، وأجرف الطين ، وأزيح الأعشاب ..
ولمحت الفتاة قادمة من بعيد .. مالت عن الجسر ، وسارت فى الطريق الصغير بين الحقول ، وكانت تمشى الهوينا كعادتها ، وتسوق أمامها قطيعا .. قطيعا عجيبا .. كان خليطا من الغنم والأعنز والبط ، وبعض الطيور الأخرى .. وكان الوقت ظهرًا ، والقيظ شديدًا .. وكانت تلوح بعصاها ، وتنزل بها على ظهر الغنم .. وترد الأعنز إلى الطريق ..
وكانت تمشى الوجى ، وملامحها ساكنة ، ووجهها فى لون البرنز وفمها الدقيق مفتوحًا .. ونفسها مبهورًا ، وقدماها عاريتين .. ولقد أشفقت على هاتين القدمين الصغيرتين ، وهما تصليان نار الأرض ، فى تلك الساعة من النهار .. ووددت لو أفرش لها الطريق بالسندس ، أو الإستبرق .. !
وقفت على مدى أذرع قليلة منى .. وورد القطيع الماء .. مدت الأغنام والعنزات أعناقها وقفز البط إليه .. وكنت محولا وجهى عن الشمس ، ويدى على الفأس ، وعينى إلى الأفق .. وشعرت لأول مرة فى حياتى باضطراب شديد ..
أنا رجل من لحم ودم .. رغم كل شىء .. ورغم ما فى من قوة الأعصاب.. وأنا وإن كنت ريفيا خشنا لم يخفق قلبى خفقة الوجد ، ولم أنعم فى ظلال الروض بنسيم الحب وشذاه .. ولكنى رجل .. رجل فى ربيع عمره، من لحم ودم .. ذاق قسوة الحرمان عدة سنين .. !
ولهذا شعرت عندما اقتربت منى هذه المرأة ، وامتزجت أنفاسها بأنفاس الزرع المحيط بى ، بأن يدًا من الفولاذ تعصر قلبى .. فوضعت الفأس على كتفى ، وتركت المرأة وحدها، ودخلت الحقل ، وأخذت أضرب فى الأرض ، وعيناى لا تريان شيئا ، وجسمى يسيل عرقا .. وظللت على ذلك مدة خيل إلى أنها طويلة جدا..
وتنبهت على صوت المياه ، وهى تتدفق بجوارى ، وتسيل تحت قدمى .. فأسرعت إلى خارج الحقل .. فوجدت القناة قد تقطعت فى المكان الذى كان يشرب فيه القطيع .. وكانت الفتاة واقفة فى مكانها تضحك .. !
فقلت لها فى غيظ وخشونة :
ـ أهذا مضحك .. ؟
ـ ليس أمتع منه منظرًا .. !
ـ اذهبى بغنمك وعنزاتك .. إن هذا جهد تسعة رجال من لحم ودم .. اذهبى ..
فظلت فى مكانها ، ساجية الطرف ، تضحك !
ـ أقول لك اذهبى .. اذهبى إلى جهنم بغنمك و ..
ـ أنا أشرب من النيل .. والنيل ليس ملكك ، ولا ملكا لأحد .
فلوحت بذراعى ، وصحت فى وجهها وصوتى يرعد من الغضب !
ـ النيل هناك .. وإذا جئت إلى هذه القناة مرة أخرى سأقطع رأسك بهذه الفأس .. !
فبقيت فى مكانها ساكنة ، ووجهها باسم ، لم يكن هناك شىء يخيفها ، أو يفزعها .. ! وكنت قد سددت القطع ، وسكن جائشى ، وعاودنى بعض الهدوء .. وكانت تلاحظنى ، وأنا أجرف الطين ، بعينين ذابلتين ، شبه مسبلتين، ولكنهما تلمعان ، ويبدو فيهما من حين إلى حين .. ذلك البريق الخاطف الذى لا تراه إلا فى نساء « النور » ..
هزت عصاها ، وساقت القطيع .. تقدمت به نحوى ! ووقفت أمامى فى الناحية الأخرى من القناة ، وكان خداها يرف لونهما ، ويذوب فيهما شعاع الشمس ، وشفتها السفلى فى لون الدم .. ! ورفعت أهدابها ، وقالت فى صوت كالهمس :
ـ أعطنى بعض الحشائش للعنزات .. !
فأشرت بيدى إلى الحقل ، وقلت لها فى صوت جاف :
ـ الحقل أمامك ، فورقى منه ما تشاءين ..
ـ لا أعرف .. !
ـ ماذا ؟! ...
ـ لا أعرف .. أنا لست فلاحة ..
ـ أنا أعرف أنك بنت العمدة ! .. ومن تكونين إذن ؟ ..
ـ أنا غجرية ! ..
ـ نورية ؟ ..
ـ نورية ! ..
ـ ومتى ترحلون .. !
ـ لا ادرى .. ولا حتى طوفان يدرى .. !
فأدركت أن طوفان هو ذلك الثور الهائل الذى كان يفتل الحبل ، ولا شك أنه زعيم القافلة .. ! ورجلها أيضا .. !
ودخلت الحقل ، وخرجت منه بحزمة ضخمة من الحشائش ، وألقيتها تحت قدميها ..
وقلت لها :
ـ خذى .. واذهبى عنى ..
ـ أنا لست قوية مثلك .. ولا أستطيع حمل هذه .. !
ـ إنها ليست أثقل من الجرة ..
ـ ولكننى لا أستطيع حملها ..
ـ سترين .. !
وعبرت القناة ، واقتربت منها .. واقتربت منى .. ورفعت طرفها .. وصوبت عينيها إلى أعماق عينى ..
وأخذنى ما يشبه السعار عندما لمست يدى ذراعها .. ووضعت الحزمة على رأسها فى قوة ، فرفعت أهدابها ، وركزت بصرها .. وظلت على ذلك برهة .. ثم حولت وجهها عنى ، ومضت تحت وهج الشمس الحامية ..
***
تعلق قلبى بها بعد هذه المقابلة ، وأخذت أفهم بوضوح سر نظرتها .. وأتبين الرغبة فى أعماق عينيها ..
كانت قد هزت شيئا كامنا فى أعماق نفسى .. وحركت غريزتى بعد طول سكونها ، وطول خمودها .. عندما تبتعد عن المرأة ، وتشغل عنها بالعمل الشاق ، لا تعود تفكر فيها إلا تفكيرا عارضا.. وقد تطرحها وراء ظهرك وتنساها كلية .. !
ولكن ويل للرجل القوى الجسم ، الكامل الرجولة إذا حامت حوله امرأة .. وألقت عليه شباكها.. ووقع تحت سلطان نظرتها النهمة .. ويل له من العذاب المضنى ، والألم الشديد ، والقلق المستبد ، والأرق الذى لا نوم بعده ..
كنت أضع جنبى على الأرض ، ولا أتحرك طول الليل ، ولا يمر بى حتى طيف حلم .. ! أما الآن فأنا أتقلب طول الليل على جنبى ، وأتمثلها بنظرتها ورغبتها .. وأحلم بأنها بين ذراعى ، وأنى آخذها فى أحضانى .. !  لقد أخذ نظرى يشرد ، وعقلى يضطرب ، وجسمى يثور ، وروحى تتعذب ، وجو حياتى كله قد تكنفته الشياطين .. !
***
اشتد على الأرق فى ليلة من الليالى ، وثارت ثورة الدم فى جسمى ، فغادرت المنزل ، ومشيت على الجسر ، وكان الليل ساكنا ، والظلام مخيما ، والقرية كلها غارقة فى سبات عميق .. ولا شىء يقطع هذا السكون غير نباح الكلاب بين الفينة والفينة ..
ومضيت على الجسر حتى ألفيت نفسى واقفا بإزاء خبائها .. إنها نائمة الآن .. ربما فى أحضان ذلك الثور .. أو ساهرة وحدها تعد النجوم .. ويممت وجهى شطر الحقول ، ووجدت نفسى أمضى سريعا كأنما أساق إلى غاية .. وأخذت عينى الشواديف ، وهى قائمة فى فحمة الليل كالأشباح .. ومشيت على النيل ، ولمحت قلوع المراكب البيضاء ، وهى ترتعش فى جوف الظلام ..
وطالعنى الجمال والسكون من كل جانب .. سكون النيل .. وسكون الروض .. وسكون الليل .. ولكن لا شىء يسكن ثوران جسمى ، ويهدئ فورة الدم فى شرايينى ! .. لا شىء .. !
اضطجعت فى بطن القناة .. وعينى إلى نجوم الليل البراقة .. وأذنى إلى كل حس .. إلى حس إنسان .. إلى صوت امرأة .. ومضت ساعة .. وأنا مرهف سمعى .. وبصرى لا يتحول عن الطريق ..
وسمعت حسًا ، سمعت صوتًا كالهمس ، فرفعت رأسى ، وشخصت ببصرى .. وكان النور قد بدأ ينتشر .. وتبينت نساء فى الطريق إلى النيل .. لقد بدأن يملأن الجرار .. وستجىء هى .. بعد هؤلاء أو بعد سواهن .. وعادت النسوه إلى القرية ، وجاء غيرهن .. ومضين .. ولم يأت بعدهن أحد ..
أنقطعت الرجل .. واشتد السكون .. ورأيت سوادا ينحدر عن الجسر .. نهضت بصدرى وأرسلت عينى .. وظللت معلقا بصرى بهذه المرأة حتى اقتربت وتوضحتها .. إنها هى .. ولا أحد يتأود فى مشيته مثلها .. ولا أحد يجىء وحده سواها .. ونهضت من مكانى ، واندفعت فى سرعة البرق إلى الحقل .. !
وحملت فأسا على ظهرى ، ومضيت إلى رأس القناة ، وأخذت أضرب فى الأرض .. ! ونظرى يرتفع عن الأرض ، ويستقر على الطريق .. وكانت تسير هادئة ساكنة ، ولما اقتربت منى سمعت صوت الفأس .. فمالت برأسها ، وتمهلت فى سيرها لحظة .. ثم استأنفت السير حتى اقتربت منى جدا ..
وقالت:
ـ آه .. أهذا أنت ؟ .. إنك لا تنام كالشياطين .. !
فلم أرد عليها ، وأخذت أضرب فى الأرض ..
ـ أتعمل فى هذه الساعة .. إن النور لم يطلع بعد .. !
ـ يجب أن أهيىء القناة قبل أن تدور الشواديف .. »
ـ ولكن هذا جهد شاق .. شاق جدا .. يضر بك ويفنى قوتك ..
ـ إن هذا لا يضر .. ولا شىء يفنى قوتى إلا الموت ..
فابتسمت ، ومضت بالجرة ونزلت إلى النيل .. ألقيت الفأس .. ووقفت على رأس المنحدر أرقبها بعينين زائغتين .. وطلعت ، ورأتنى واقفا كالناطور .. ! فوضعت الجرة على حافة الطريق لتصلح من ثوبها ..
وقالت :
ـ لماذا تقف هكذا .. أتريد أن تستحم .. ؟
ـ أجل ..
ـ فى طريق النساء .. إنك شيطان .. !
ـ لقد انقطعت الرجل .. وسأذهب بعيدا .. دعينى أساعدك على حمل الجرة ..
ووضعت يدى على يدها ، وهى ممسكة بأذن الجرة .. وسرى فى جسمى اللهب ..
نظرت إلىّ .. وأدركت ما يدور فى خاطرى .. وشددت على ذراعها ..
فقالت :
ـ دعنى أمض .. لماذا تنظر إلى هكذا .. دعنى أمضى ..
وكانت تهمس ، ولكنى شددت على ذراعها بقبضة من فولاذ .. وحملتها.. وفى سرعة البرق دخلت بها الحقل ..
***
وقالت لى وهى تحمل الجرة عائدة إلى القرية :
ـ إنك وحش .. ولكنى أحب الوحوش .. !
***
ومرت الأيام ، وكانت مستسلمة بكليتها لى ، وشاعرة بنشوة لا تصور ، وكانت تأخذ منى كثيرا ، ولا آخذ منها شيئا .. ولم تكن من أولئك النساء اللواتى يشعرن بعد الجريمة بعذاب القلق ، ويقظة الوجدان فيرحن يقطعن حسرات ويرسلن العبرات .. ! لم تكن من هؤلاء فى شىء ، بل كانت تزداد على الأيام فجورا وسعيرا ، وازداد معها نزقا وطيشا ..
عندما كنت صغيرا ، كنت أخرج مع لداتى من أبناء قريتى إلى النيل ، ونتسلق صوارى المراكب إلى أن نصل إلى قمتها .. ونقفز من هذه القمة إلى الماء .. ونغوص إلى القاع حتى تلمس أقدامنا الوحل .. ! ثم نشب بعد ذلك فى بطء ، ويصافح وجهى سطح الماء فأنفض رأسى ، وأنا شاعر بدوار لذيذ .. ! وهذا هو حالى مع هذه المرأة ، فأنا غائص إلى الأعماق ، وشاعر بنفس الدوار ..
كان جسمها من السعير ، وكانت روحها تتلظى أبدا فى النار ، وكنت كأنما شددت إليها بسلاسل من الحديد ، فما من فكاك ..
وكانت روحى تستيقظ من حين إلى حين ، فأشعر بعذاب قتال ، لقد كنت ناعم البال ، قرير العين ، مثلوج الفؤاد ، قبل أن ألتقى بهذه المرأة ، فلما التقيت بها ، لفتنى العاصفة الهوجاء فى طياتها ، وكدت أذهب مع الريح .. !
ولقد كان الرفاق يذهبون جميعا للصلاة فى يوم الجمعة ، وكنت أتخلف وحدى .. فما كنت أستطيع أن أذهب معهم ..
كان جسدى قد سقط ، وروحى قد تلوث ، فكيف أقف أمام اللّه كما كنت أقف من قبل .. ويل لى من العذاب .. كنت أتبع الرفاق ببصرى ، وأنا واقف فى مكانى كالمنبوذ ، وأود لو أتمرغ فى التراب .
***
كانت الشواديف دائرة على أشدها ، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب ، وفعل نسيم الغروب فى أجسامنا فعل السحر ، فازددنا نشاطا وقوة .. ودارت الشواديف فى جنون ، وكنا ، نغنى ونشيع النهار المولى ..
وسقط أحد الشواديف فجأة ، مالت قوائمه ، وتحمل عجزه على الأرض .. وصعدت مع أحد الرفاق لرفعه .. وفيما أنا أدور ، وعلى صدرى هذه الكتلة الضخمة من الطين ، زلفت رجلى وسقطت إلى أسفل .. وجرحت جرحا بليغا واختلط الدم الغزير بالماء .. وغدا كل شىء أحمر ..
وكفت الشواديف عن الحركة .. ونظر إلى الرفاق فى ذهول ، وشفقة وألم .. وحملونى إلى البيت ..
وكان عباس أقوى الرجال من بعدى .. فاحتل مكانى ، وأدار دفة العمل أثناء مرضى ..
***
وطالت أيام مرضى .. فلم يكن هناك علاج ولا طب ، فقد تركت نفسى لرحمة الأقدار ..
وتطور الجرح ، وأصبت بالحمى ، وكنت أهذى طول الليل فى غرفة حقيرة قذرة ليس فيها نور ، ولا هواء ، ولا تراها عين الشمس .. فلم يكن فيها غير منفذ واحد ، وهو بابها الصغير .. ! وكانت الحشرات تمرح فيها فى الليل ، والذباب يملأ جوها فى النهار ، والروائح الكريهة تنبعث من كل مكان ..
وكنت ملقى على حصيرة قذرة فى ركن من الغرفة .. وتحت رأسى وسادة أقذر منها .. فأى عذاب وألم ، وأى حياة يحياها الريفى المسكين.. ! إنه إذا عاد من الحقل ، ودخل البيت ، أو ما يسمى بيتا شعر بالاختناق ، ولكن حسه يبلد على مر الأيام ، وعينه تألف القذارة ، كما يتعود بطنه الجوع .. فإذا مرض أرهف حسه ، ورجعت إليه مشاعره من جديد، وذكر المدينة وما يجرى فيها .. وراح يتصور القصور الشامخة ، والحدائق الغناء .. والمستشفيات والأطباء فى كل مكان فى المدينة .. وتفتحت آفاق نفسه ، وتاقت لأطايب الحياة ومناعمها ، وتحسر على ما مضى من عمره فى فقر وعذاب .. وأحس بالألم ، وويل للمظلوم إذا شعر بأنه مظلوم ..
كنت أقضى الليل ساهرًا ، وأفتح عينى فى الظلام ، وأحس بعباس وهو يتسلل من الغرفة فى أخريات الليل .. وأسائل نفسى إلى أين يذهب ..!  فإذا رجع نام كالقتيل .. ! أهو عائد من عندها .. ؟ لقد كنت أنام هكذا .. بعد كل موعد معها .. فمن المحتمل جدا .. أنها أوقعته فى حبالتها .. وهى تواعده كل يوم كما كانت تواعدنى ، وتأخذه إلى نفس المكان .. ! فيالسخرية الأقدار  .. كنت أدور ببصرى فى الغرفة كالمجنون حتى أستقر على وجهه ، وأود لو أعرف الحقيقة ، الحقيقة ليس إلا .. فقد كان الشك ينهش قلبى ..
***
وكان أول شىء فعلته بعد أن قويت على السير ، ورجعت إلى بعض قوتى ، أنى ذهبت إلى الحقل مبكرا لأراها .. ورأيتها وحادثتها وواعدتنى ، وجاءت فى هذه المرة فى نصف الليل ، ولم تبق طويلا .. وكانت تنظر إلى عينى فى استغراب ، ولم أدرك سر نظرتها ..
وقابلتها بعد ذلك مرات ، وكانت فى كل مرة لا تمكث سوى دقائق قليلة ، وتتعلل بالأكاذيب ..
وذات مرة أمسكت بذراعها ، وقلت لها فى غضب :
ـ ما الذى جرى يا ناعسة .. لقد تغيرت .. لماذا لا تمكثين غير لحظات ، وتمضين لطيتك .. ؟
ـ إن طوفان بدأ يلاحظ .. وأنت تعرف الثور عندما يثور .. !
وكانت تكذب ، فليس لطوفان ، ولا ألف رجل من أضرابه حساب فى نظرها ، وما من شىء كان يخيفها ويحول بينها وبين رغباتها ، وما من إنسان تخشاه .. فقد تقمصتها روح شيطان .. ولكننى تغيرت فتغيرت .. ملت وضجرت ، لأنها لم تعد تحس بقوة سواعدى ..
***
ورأيتها ذات مساء تديم النظر ، فى سكون ، إلى عينى ، ثم تولى وجهها مفزعة .. !
فسألتها :
ـ لماذا تنظرين إلى هكذا .. ؟
فعاد الهدوء إلى وجهها ، وارتسمت على فمها ابتسامة باهتة ، وظلت صامتة ..
ـ لماذا تنظرين إلى عينى هكذا .. ؟
وهززت ساعدها .. فقالت فى صوت كالهمس :
ـ أرى فى عينيك شيئا رهيبا .. !
ـ ما هو .. ؟
ـ لا أستطيع أن أبوح لك به الآن .. دعنى أمض ..
ـ لن أدعك تذهبين .. حتى .. حتى ..
ـ إنك مخبول .. دعنى أمض .. لا شىء فى عينيك ..
ومضت فى جوف الظلام ..
***
وسرت وراءها ذات ليلة .. وأحست بى فتوقفت عن سيرها ، وتقدمت حتى وقفت أمامها ، وأمسكت بذراعها ، فأفلتت ذراعها من يدى بقوة كمن أصابته لدغة عقرب .. ! وفى مثل لمح الطرف انقلبت ملامح وجهها إلى وجه نمرة .. !
وقالت بصوت يرتعش ، وهى ترسل من عينيها نارا :
ـ ما الذى تريده .. ؟
فأرسلت يدى إليها مرة أخرى ، فصرخت فى وجهى :
ـ ابتعد عنى .. لا تلمسنى أيها القذر .. !
شعرت بغيظ شديد ، وتلفت حولى فلم أجد إنسانا .. ليس هناك سوانا ، ونظرت إليها نظرة مجنون .. كان قلبى يتقد من الغيظ ، وعيناى ترسلان وهجا من نار .. وأدركت ما يدور فى ذهنى ..
فقالت فى هدوء ، وشفتها السفلى متقلصة ، وعينها لا تتحول عن وجهى :
ـ هل تحسب أنك تخيفنى بهذه النظرة .. !  أنا لست ملكا لك ، ولا ملكا لأحد .. أنا حرة طليقة كالطير ، أطير فى كل مكان .. وما لأحد سلطان على .. وما من شىء يخيفنى .. وما من شر يصيبنى من إنسان .. أما أنت فستساق يوما إلى المشنقة بين صفين من الجند .. !
ومضت عنى ، واحتواها الظلام ، وبقيت مسمرا فى مكانى ، ملصقا بالأرض ، كأنى أحد النواطير القائمة فى الحقل لتخيف العصافير ..
***
ونضج حقل الذرة وأخذنا نقطع الكيزان ، ونكومها فى طرف الحقل .. وكان ثلاثة منا يبيتون فى الغيط مناوبة ، ومعهم سلاحهم ، وكان الحقل قد قطع نصفه وبقى نصفه ، الآخر قائما .. وكان علينا النوبة ، أنا وصاحبى عباس ، ورجل ثالث ..
وكانت الليلة مظلمة ساكنة الريح ، ففرشنا الزكائب وتمددنا عليها ، وأعيننا تحصى النجوم فى السماء .. وآذاننا إلى كل حس .. وكانت رقعة السماء منبسطة ، والنجوم تتهاوى فى ثلث الليل الثانى كالشهب ، وكان النيل قد فاض .. وأخذت الضفادع تنقنق .. احتفالا بفيضانه .. ! واعتمد رفيقنا الثالث على حزمة من القش ونام ، وبقيت أنا وعباس نتحدث .. وكان بين الفينة والفينة يرفع بصره إلى الطريق .. ثم يضع رأسه على الزكيبة .. وأكثر من هذه الحركة ..
فسألته :
ـ لماذا تدور ببصرك هكذا .. ؟
فقال :
ـ أخاف على الناقة .. »
وكانت باركة .. على مسافة منا ..
فقلت له :
ـ لا تخش شيئا .. بركها هنا .. على مرمى البصر منا ..
فنهض وأخذ بخطام الناقة .. وعينه تتلفت كأنه يبحث عن شىء .. ثم أناخها عن قرب .. وعاد فتمدد ..
وأخذنى النوم ، وصحوت فتفقدت رفيقى فلم أجده بجوارى ..
ودرت فيما حولى .. ولمحت امرأة خارجة من الحقل .. مضت فى الطريق وهى لا تتلفت .. ورفعت وجهى ، وعرفتها .. لقد كانت هى بعينها ، بلحمها ودمها ومشيتها ، ولا أحد يمشى غيرها ، فى غلس الليل ، وليست هناك امرأة تركب الخطار مثلها .. فى سبيل إرضاء رغبتها ..
وسحبت البندقية من تحتى ، كنت فى حالة هياج وخبل .. وكانت الغيرة العمياء قد تملكتنى .. لماذا لا أقتل هذه الحية ، وأريح البشرية من سمها ؟..!
انها قتلتنى ، وستقتل عباس من بعدى .. ثم ترمى حبائلها وشباكها إلى رجل آخر .. وتأخذ من كل رجل كل قوته .. فإذا ضعف أمامها لفظته ، وطرحت به بعيدا .. وكم قتلت من الرجال قبلى ، وكم ستقتل من بعدى ..
وجذبت الأكرة ، وسمعت حركة الرصاصة وهى تستقر فى الماسورة ، وصوبت وسددت ، وبقيت ثانية أرتعش ، ورأيتها تتلفت ، أدارت وجهها... ورأيت عينيها ، بعين الخيال ، تنظران إلىّ فى قوة ..
وهى تقول :
ـ لا أحد .. يستطيع قتلى .. وما من شر يصيبنى من إنسان .. أما أنت فستساق إلى المشنقة بين صفين من الجند .. !
وغامت عيناى .. وسمعت صوت رفيقى الثالث وهو يقول :
ـ ما الذى جرى يا نعمان .. أترى شيئا .. ؟
فأجبته فى صوت يرتعش :
ـ ألمح ظل ثعلب .. وكنت أود أن أصطاده ، ولكن اللّه أراد أن يذهب إلى سبيله .. !
ووضعت البندقية فى مكانها ، بعد أن أخرجت الرصاصة ..
وجاء عباس .. بعد مدة .. وعندما لمحته قادما من بعيد تناومت .. وحدق فى وجهى طويلا ، ثم ارتمى على كوم من القش ونام ، دون حس ولا حركة ، كأنه كان يقطع الأحجار طول النهار فى المحجر .. !
***
انتهت أيام العمل وعدنا نتبطل ونركب الحياة بشبابنا ..
وكان أحد أبناء الأعيان سيتزوج .. ولما كان محبوبا ووحيد أبويه ، فقد عم الفرح كل بيت فى القرية ، وكان الفرح قد بدأ قبل الزفاف بأسبوع بالرقص على الخيل ، ولعب العصا من العصر إلى الغروب ، وبعد العشاء يدور السامر إلى الفجر ..
وأعدوا أرضا منبسطة فى خارج القرية لذلك ، ولما كنت من اللاعبيين بالعصا ، فقد كنت أذهب إلى هناك ، عندما أسمع أول ضرب للطبل ، وأول صوت للمزمار ..
وكنت قد شفيت تمامًا ، ورجعت إلى قوتى ، وتطلعت إلىَّ الأنظار ، فقد كنت أبرع من دار بالعصا فى حلقة ، وكان عباس أيضًا من البارعين فى هذه اللعبة ، ولهذا كان يلاعبنى كثيرًا ، على أن الغلبة كانت لى دائمًا .. وظللت بطل الميدان ، ومحط الأنظار ، وكان سرورى بذلك عظيما ..
وكان السامر يبدأ بعد العشاء ، وتشعل النيران لتحمى بها الدفوف ، ثم يدور الرقص فى ضوء القمر ، وتحت نوره الفضى ، ويزمر الزامرون ، وترقص الراقصات ، والسامر كله يصفق فى مرح وحبور .. وتتثنى الراقصات ، ويدرن فى الحلقة ، يوزعن البسمات على الجالسين ، ويجمعن النقود .. !
***
وجاءوا بناعسة ذات ليلة .. وكانت ترقص مسبلة العينين ، مفتوحة الشفتين ، كأنها فى نوم هادىء تتخلله ألذ الأحلام .. ! وكان جسمها يتلوى ويتثنى ويدور ..
وكان عباس فى الصف الأول من الحلقة ، فكانت تدور إلى أن تحاذيه ، فتقف أمامه ، وتطيل الوقفة ، وهى تميد وتتمايل ، وعلى ثغرها ابتسامة مغرية .. ثم تميل عليه ، وتأخذ منه النقود بفمها ، وتبتعد عنه لتقترب منه ، وتدور فى السامر كله ، وعينها لا تتحول عنه .. وكنت أشاهد هذا بعينين سادرتين .. وكانت تمر أمامى ، ولا تكاد تتوقف ، ولا تكاد تحس بوجودى .. فكان الغيظ يدفعنى إلى أن أحمل على السامر ومن فيه ، وأحطم كل شىء تحطيما ..
وانفض السامر ، ومشيت إلى البيت مخذولا كسير القلب .
***
وابتدأ لعب العصا فى اليوم التالى .. وكان عباس يلاعبنى ، وصورة الأمس لا تزال فى مخيلتى .. كنت أتمثلها وهى تدور به ، وتتثنى حوله ، وتكاد ترتمى بين ذراعيه أمام الناس .. !
دار بالعصا فى الحلقة ، وعيناى لا تفلتانه ، ولوح كل منا بعصاه .. ووضعها على الأرض .. ودار .. ودرت .. وتقدم .. وتقدمت .. وتشابكت العصوان .. وضربنى ضربتين تحت إبطى .. وشعرت بالذلة .. وكان الغضب ، وما حدث فى اليوم السابق قد أعميا باصرتى فلم يكن لعبى إلا لغوا .. وفقدت كل قدرة على التوجيه .. وكنت لا أرى إلا صورة الأمس ..
صورة تلك المرأة الملعونة التى ستذهب بشبابى .. ورأيت ذراعيه تلوحان بالعصا .. ولم تكونا فى نظرى تلوحان بالعصا .. بل كانتا تدوران حول ناعسة .. ولا شىء غير هذا .. !
ودار وضربنى ضربة قوية .. وضج السامر .. فضربته ضربتين ولكنه تلقاهما على عصاه .. فزادنى ذلك غيظًا .. وخرجت عن طوقى .. وكان محتفظًا بحواسه كلها .. وضربنى ضربة أخرى نزلت تحت ابطى .. واحمرت عيناى .. وتراجعت إلى الوراء وضربت بكل قوتى .. ضربة واحدة .. حطت على صدغه .. وسقط .. واستولى الذهول على الناس .. وانقطع صوت المزمار .. !
***
ووضعوا الحديد فى يدى ، وساقونى وحولى نطاق من الجند إلى المركز ..
وسرنا على جسر القرية الطويل ، مع الشمس الغاربة ، فى سكون وصمت .. ولمحت ناعسة عن بعد نازلة إلى الطريق ، وسائرة إلى النيل تتهادى على مهل ، وعلى رأسها جرتها .. كانت تمشى الهوينى كعادتها فى سكون وهدوء ظاهرين ، كأن لم يحدث شىء .. !
إنها المرأة .. إنها الحياة الماضية فى طريقها لا تعبأ بشىء مما يجرى من أحداث ..
================================
نشرت القصة فى مجموعة " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى سنة 1944 وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================















حياة رجل

كان الدكتور عرفى من أعز أصدقائى ، كان صديقى فى المدرسة ، وزميلى فى معهد شوبير الموسيقى ، ورفيقى فى كل مكان .. وهو الذى أغرانى بتعليم الموسيقى ، وركوب الصعاب فى سبيلها ، ثم هو الذى جعلنى أنفض يدى منها ، وأتخلف عن الركب فى أول الطريق ..
وكان يقول بعد الدرس ، وعلى شفتيه ابتسامته التى لم تكن تفارق ثغره أبدًا :
 "أنا أفهم أننى أستطيع أن أستظهر لامية العرب للشنفرى ، أو بائية النابغة الذبيانى ، أو معلقة الأعشى .. أما أن أستظهر مقطوعات موسيقية برمتها ، وأؤديها عن ظهر قلب كما لو كانت قصيدة من الشعر ، فذلك مالا يطاق .. هارمونى .. سلفيج .. سأظل ثلاثين سنة لا أفرق بين الدودييز والدوناتوريل ..! لماذا كتب علينا هذا المصير ..! "
ومع كل دعاباته ، وما كان يركب به الناس من مجون .. فقد ثابرنا وواصلنا الدرس ، ولم نتقدم لا كثيرا ولا قليلا ..! وكان ينظر إلى مدرس الكمان ، ويقول :
- أتذكر بائع البسطرمة فى شوارع استنبول .. إنه صورة ممتعة لا نظير لها إلا مدرسنا هذا ..! كيف يدرس هذا الموسيقى وروحه أبعد شيء عنها ..؟ وليس فيه طبع الفنان ، وما له سمته .. لماذا كتب علينا هذا المصير ..!
       وحضرنا حفلة غنائية لأول مرة ، وآخر مرة فى حياتنا ..
       وصفق الناس للمغنى ، وكادت الأكف أن تطير فى الجو من فرط الحماسة .. مع أنه لم يقل شيئا سوى أنه تأوه .. وتأوه .. ثم تأوه .. وقال كلاما لا معنى له ، لا هو بالشعر .. ولا هو بالنثر .. وإنما هو أشبه بنواح العجائز .. وتغير وجه صاحبى ، وظل فى مكانه يتميز من الغيظ .. ثم انتفض .. وجذبنى من سترتى وهو يقول :
- هيا بنا .. كيف أقبل على نفسى أن أكون بهلوانا لهؤلاء الحمقى ..؟ فلنرح أنفسنا من هذا العناء .. لقد ألفوا التهريج وغدا من طباعهم .. وكل فنان حقه مضيع فى هذا البلد .. ومما يحز نياط القلب أن هذه القرود تتحكم فى مصير الفنانين .. فلنرح أنفسنا من هذا النصب .. وليس هناك سوى بيتهوفن واحد كما تعرف ، وعالم الموسيقى لن يخسر شيئا إذا حدنا عن الطريق ..
وقد كان ..
***
       وكان يدرس الطب ، وكنت فى قريتى أعمل فى الحقول .. وكان أشق الأشياء على نفسه أن يكتب رسالة لإنسان .. فانقطعت عنى أخباره عدة سنوات .. ثم عدت إلى القاهرة ، وبحثت عنه فى كل مكان فلم أجده .. فتصورته فى عداد الموتى .. إلى أن ذهبت فى عمل إلى السويس ، فرأيته جالسا على حجر فى طريق الزيتية ، وعينه إلى الجبل ، وقد تراكمت عليه السحب ..
       وكان فى سكون طائره ، وهدوء نفسه كأنه تمثال .. ولما وقع نظره علىّ ، رفع وجهه قليلاً ، دون أن يتحرك من مكانه ، وكأننى كنت معه على ميعاد ، وقال وهو يبتسم :
- كنت أعرف أنك ستأتى إلى هذه البلدة ، فقد تلفت أعصابك من القراءة والكتابة ، وضياع العمر فيما لا يجدى ..!
***
       ومشينا إلى مشرب من مشارب الجعة لنتعشى ، وقال لى على العشاء :
       - أطبعت شيئا جديدا يا رشاد ..؟
       - لم أفكر فى ذلك ..
       - حسنا تفعل .. إنه ضياع لعمر الشباب فيما لا خير فيه .. وهناك طرق أخرى للانتحار أسرع من هذه التى اخترتها لنفسك ..!
       - ولكن لابد مما ليس منه بد ..
       - هذا هراء .. ولقد فقدت الإيمان وهو عدة الفنان .. أنسيت بائع البسطرمة فى شوارع استنبول والقرود الهاذرة فى كل مكان ..! إنه عناء ونصب ، ولا جديد تحت الشمس..
       وصمت وعاد إلى الكأس .. وكان أبيض كوسجا رائع المظهر ، حسن السمت ، ساكن الطائر أبدا ، كأنما صبت أعصابه فى قوالب من حديد .. وكانت عيناه أول ما يروعك من حسنه .. كان سوادهما شديدا وبريقهما أخاذا .. إذا نظر نفذ بهما إلى السويداء .. وإذا سدر ببصره خلته يتأمل من فرط السكون الذى يشيع فى معارف وجهه ..
       وكان ينظر إلى المرأة عن عرض ويحتقرها فى أعماق نفسه .. ومع ذلك فقد كانت دائما تلوذ بكنفه ، وترتمى تحت قدميه .. وهى فى نظره أبسط من البساطة إذا ما توجهت إليها من أقصر طريق .. وأخلق بمن يدور حولها ، كما تدور الرحى حول قطبها ، أن يصيبه الدوار قبل أن يبلغ القصد ..
       وكان يشرب الجعة كما يشرب الماء .. يعب فيها عبا ، ولعله ما كان يجد للماء مذاقا فى فمه بعدها ..! وكان يستغنى بها عن العشاء وعلى كثرة ما كان يشرب منها لم يكن يثمل ، أو يفقد توازنه ، أو يغيب عن وعيه .. وكل ما كان يحدث له هو أن تلتمع عيناه ، ويبدو سوادهما على أشده ..
       ونظرت إلى وجهه ، وهو يرفع الكأس إلى شفتيه .. وعدت أذكره عندما كان طالبا صغيرا فى المدرسة ، ناحل الجسم وادعا .. رقيق الحس ، متيقظ المشاعر ، يقف بعيدا عن التلاميذ تحت شجرة الجميز فى فناء المدرسة .. وبيده ديوان من الشعر .. وكان يقرأ ويستظهر .. ويرسل بصره إلى الحقول المجاورة .. فإذا دق الجرس ، كان آخر إنسان يدخل الفصل .. وآخر جالس فى الصف .. وآخر تلميذ فى الترتيب .. وكان إذا ابتدأ المدرس فى الدرس ، ابتدأ هو يسبح فى ملكوته ، وغاب ، واستغرق فى تأملاته ، ولم يكن ينتبه لكلمة واحدة مما يقوله الأستاذ .. فإذا جاءت سيرة الشعر ، أو الموسيقى تنبه من غفلته ، وانتفض كما ينتفض الطير اذا أصابه القطر ..
       ذكرت هذا كله ، وأنا الاحظه بعينى ، وهو يعب فى الجعة ..
       وسألته :
       - لماذا تتحامل على الآداب والفنون هكذا ..؟ وكيف تنسى أيام الصبا .. وكيف تنسى الشعر والموسيقى ..؟ لقد غيرتك الجعة ..
       - إنها ليست الجعة .. أنت تعرف أن حادثًا بسيطًا يقع فى حياة الإنسانية قد يغير وجه التاريخ .. وكذلك الإنسان قد يعرض له حادث تافه فيغير مجرى حياته .. يغير نظرته للأمور ويبدله تبديلاً ، ويخلق منه رجلا آخر ..
       أتذكر السيدة جراسيا الكاتبة الأجنبية التى زارتنا فى المعهد .. أنا مدين لهذه المرأة بكيانى ووجودى .. لقد فتحت عينى على حقائق الوجود .. أتذكر هذه المرأة ..؟ لقد دعوناها للعشاء كما تعرف ، وسافرت هى إلى أسوان ، وسافرت أنت إلى القرية ..
       وفى صباح يوم من أيام الشتاء كنت سائرًا وحدى فى شارع سليمان باشا وسمعت من يهتف باسمى فتلفت .. فوجدتها هى .. وكانت معها سيدة أخرى أصغر منها سنا ، وأنضر وجها ..
       وقالت فى صوت رقيق :
       - أتذكرنى ..؟
       - بالطبع يا سيدتى ..
       وأحنيت رأسى .. وكان الخجل قد جعلنى مضحكا ..! ولاحظت ذلك فابتسمت ، وقدمتنى إلى السيدة التى معها .. فسلمت تسليم البشاشة ..
       وأعطتنى السيدة جراسيا عنوانها ، ودعتنى إلى زيارتها فى مساء اليوم التالى فى الفندق ..
***
       وفى المساء كنت هناك فى غرفتها ..
       وأخذنا نتحدث عن الموسيقى والشعر والريف المصرى ، ثم خرجنا إلى بهو الفندق الكبير ..
       وجلسنا إلى مائدة صغيرة فى ركن قصى من البهو .. ومع هذا .. ومع أن المكان لم يكن مكتظا بالناس فإنى شعرت بالاختناق .. وتصورت أن عيون الجالسين تتجه نحوى ، وأننى غدوت محط أنظارهم جميعًا .. وكان لى عذرى فى هذا ، فقد كان هذا أول عهدى بالمجتمعات ، وأول مرة فى حياتى أجلس فيها مع سيدة فى مكان عام ..
       وجاء الساقى ، وطلبت كأسين من النبيذ ..
       فقلت لها ، وأنا أذوب خجلا :
       - أرجو معذرتى .. إننى لا أشرب ..
       - إنك لست بالصغير جدًا كما تتصور .. وستصبح فنانًا .. ويجب أن تشرب ..
       - أرجو أن تعفينى من هذا ..
       - إن كأسا واحدة لن تقتلك ..! وسترى أنه ألذ شيء .. 
    وشربت كأسا .. وكأسين .. وثلاثة .. وأحسست بالدفء .. وزايلنى الخجل ، ولم أعد أحفل بشيء مما حولى .. ونظرت إلى السيدة من جديد .. ورأيت فى عينيها بريقًا أخاذًا ، وإغراء فاتنا .. وأخذت أجردها ، بعين الخيال ، من ردائها الصوفى السميك ، وأتصورها فى غلالة رقيقة ، وقد استراحت بصدرها على صدرى ، ويدى تمر على شعرها ، وتمسح على خديها ..!
       واتكأت بمرفقها إلى المائدة ، وقالت لى فى صوت موسيقى :
       - أتشعر بتعب ..؟
       - لا .. بل أشعر بسعادة حقة ..
       - لماذا ..؟
       - إنك تعرفين السبب ..!
       - أنا لا أعرف شيئًا .. قل كل ما تشعر به .. ولا تخجل ..
     فأطرقت برأسى وأحسست بأناملها الرقيقة تمر على أناملى .. رفعت وجهى إلى وجهها .. وكانت تضحك ..!
       وسألتنى فى صوت يسيل رقة وعذوبة :
       - كم عمرك ..؟
       - سبعة عشر عاماً .. 
       - هذا ما قدرته .. عندما وقع نظرى عليك لأول مرة .. رأيت فيك صورة أعرفها .. كنت فى سكونك وهدوء نفسك وملامح وجهك ، كشيلى تمامًا .. وقد سألت الأستاذ عنك .. ولم أعجب عندما قال لى أنك تقرض الشعر وتجلس طول الوقت حالمًا .. مستغرقًا فى تأملاتك .. فقد كنت على يقين من أنك هكذا .. ولما دعوتنى مع صاحبك للعشاء فى اليوم التالى .. سررت جدًا .. لأننى كنت أحب أن أراك .. وأكبرت فيك هذه الجرأة ، ولكن يبدو لى أن هذه الجرأة كانت من صاحبك .. فأنت شديد الخجل سريع النسيان .. فقد كدت لا تعرفنى عندما قابلتك أمس فى الشارع ..
       - لم أكن نسيتك .. ولا يمكن أن انساك .. وهناك وجوه لا تنسى .. ولا أحد يستطيع أن ينسى هذا الشعر وهاتين العينين ..
       - صحيح ..؟
       - صحيح ..
       - أكنت تذكرنى ..؟
       - دائمًا ..
       - وتود أن ترانى ..؟
       - أجل ..
       - وهل فكرت فى .. كما فكرت فيك ..؟
       - فكرت كثيرًا .. وتخيلت .. وحلمت ..
       - أما أنا فقد كتبت لك رسالة .. وهى الآن فى غرفتى .. وستقرأها يومًا ما .. وتعرف لماذا كتبتها .. ولماذا أقول لك كل هذا الكلام .. والآن هيا بنا ..
       وبارحنا المكان ..
       وودعتها على سلم الفندق ..
       وقالت لى :
       - ستجئ غدًا ..
       - وبعد غد .. وكل يوم ..
       - وحدك ..؟
       - وحدى ..
       وفى اليوم التالى ذهبت إليها وكانت فى انتظارى بغرفتها .. وكانت فى أبدع زينة وفى ثوب من المخمل الأزرق ، وقد زادها فتنة ، وأكسب وجهها سحراً فوق سحره ..
       وجلست على الأريكة ، وأجلستنى بجوارها .. وأخذنا نتحدث عن بيتهوفن ، وفاجنر ، وموزار .. ونقرأ شعر شيلى .. وكان صوتها رقيقًا ، وحديثها عذبًا ، وكنت مأخوذا  بسحر جديد ، وجو غريب لم آلفه .. وشعرت بروحى تتشرب من رحيقها ، وبنشوة لذيذة تسرى فى كيانى كله ..!
       وسألتنى :
       - أقرأت الخيام ..؟
       - أجل .. اكثر من مرة ..
       - إن عندى نسخة إنجليزية نادرة الطبع .. وهى أعز علىّ من نفسى .. وقد وضعت رسالتك فيها ..
       ونهضت .. وفتحت حقيبتها .. وأخرجت الديوان .. ووضعته على المائدة .. ثم وقفت أمام المرآة لحظات ، ومرت بيدها على جبينها ، وحلت شعرها .. فانسدل طويلاً على ظهرها وكان أسود كالليل ، ومتموجا براقًا كصفحة الغدير .. وكان أبدع شيء فيها ، وكانت تعرف تأثيره وسحره على صبى فى مثل سنى ..
       وعادت وجلست بجوارى ، وفتحت الكتاب .. وقرأنا .. وأمسكت بيدها وتوقفت عن القراءة .. وظللنا ساكنين ..
       ورأيت نفسى أرفع يدى إلى ذراعها .. وأحسست بجسمى ينتفض .. وكنت غرًا وصغيرًا ، وكانت أول امرأة فى طريقى ..
       ونظرت إلىّ ، وقالت وهى تبتسم :
       - لماذا ترتعش ..؟
       فلم أجب ..
       وضحكت ضحكة ناعمة ، وقربت وجهها من وجهى ، حتى كاد شعرها يلمس جبينى ، وقالت فى صوت خافت :
       - كيف تواجه الجماهير بهذه الأعصاب .. وهذا الحياء الشديد .. إن هذا محزن ..؟
       وبعد عذاب وجهد شديدين استطعت أن أضع فمى على فمها ..
       ونزلت من الفندق ، وسرت فى شوارع القاهرة على غير قصد .. وأنا أشعر بقوة عظيمة ، وحيوية لم أعهدها فى نفسى من قبل ، وكانت روحى قد بعثت من رقادها ، وبراعم نفسى قد تفتحت ، وقلبى قد تحرك لأول حب ، وشفتاى قد ارتعشتا تحت شفتى امرأة .. ومضيت فى الطريق . وأنا أردد كلماتها وأسائل نفسى .. لماذا لا أستطيع أن أواجه الجماهير ..؟ ولماذا أفكر كثيرًا ولا اعمل شيئًا .. لماذا أفكر فى التوافه من الأمور دائمًا ، وارتعش عندما يلمس جسمى ذراع امرأة ..! لماذا أعض على النواجذ ، وأندم على ما فات ، ولا أفكر فيما هو آت ..؟ لماذا أتردد بعد كل خطوة .. وأعيش على هامش الحياة ، حالمًا كالشعراء المجانين ..! لماذا كل هذا ..؟  لأن أعصابى ممزقة ، وجسمى ناحل ، و رأسى مشحون بالأوهام ..
       وفى اليوم التالى كنت فى أحد الأندية الرياضية ، أجدف فى النيل ، وأجرى فى الهواء الطلق ، وأسبح فى الماء ، وألعب بالكرة .. وبعد شهور شعرت بجسمى يتغير ، وذهنى يصفو ، ولم أعد أفكر فى التوافه من الأمور ، ونظرت إلى الحياة من جديد .. وزاد احتقارى للإنسان بعد أن دخلت مدرسة الطب ، وأخذ مشرطى يعمل فى جسمه ، ويمزق قلبه ..!
       ونظرت إلى كتب الآداب فى بيتى ، وأسفت على هؤلاء الكتاب المساكين .. دستويفسكى .. غوركى .. أندريف .. هنريخ مان .. دكنز .. الجاحظ .. الأصفهانى .. المعرى .. ابن الرومى .. إنه الحس المرهف .. إنها العبقرية الفذة .. إن هؤلاء هم خلاصة الذكاء البشرى .. ولكنهم تعذبوا كثيراً فى سبيل سعادة المجتمع .. وماذا أفادوا ..؟ .. لاشيء .. تماثيل فى الميادين ..!  هذا هراء ..
       إن خيرًا من هؤلاء جميعًا ديماس الأكبر ، لأنه كان ضخمًا ، وفى جسم الثور .. وكان يأكل فخذ عجل ، ويكتب كل يوم كتابًا ، إنه أدب أجوف ، ولكنه أدب الجماهير ، وأدب الذين يستلقون على الأرائك ، ويسخرون من آلام البشر ..
       ماذا جاء بعد هؤلاء الأبطال .. حضارة القرن العشرين .. موسيقى الجاز .. أندية العرى .. المواخير فى كل مكان .. والتحرر من كل قيد .. والهستريا الجنسية .. الدنيا ماضية فى جنونها يا صاحبى .. والشخصيات الفذة فى تاريخ البشرية لن تتكرر ، والناس يحلمون بعصر ذهبى ، ولكن هيهات .. فقد انقضى عهد الأنبياء ، ومات عمر بن الخطاب منذ قرون وقرون .. ولن يجئ عمر آخر فى تاريخ البشرية ، والناس يسعون لغرض أسمى .. ولكن هيهات .. فالقوى سيظل يسحق الضعيف ، ومن بين كل ألف مجرم يقع مجرم واحد فى يد العدالة ، ويمضى الباقون تحت عين الشمس ..
       الدنيا ماضية فى جنونها .. رغم كل شيء .. وهل أنت أسعد حالاً الآن من إنسان الغاب ..؟  أبدًا .. وماذا تفيد الكيمياء والكهرباء إذا لم تسخر لسعادة الإنسان ..؟ كل ما تسمعه عن العصر الذهبى للإنسان هو باطل الأباطيل ، فالشقاء سيظل سرمديا ..
***
       وزرته مرة فى مسكنه الجديد فى الطابق التاسع من إحدى العمارات الكبيرة فى القاهرة .. فرأيت باب شقته مفتوحًا ، والبواب خارجاً منها يتمتم .. وكان هو جالسًا فى الشرفة ، وأمامه زجاجة من الجعة ، وعينه إلى الطريق ..
       وحييته وجلست ، وأنا أضحك ، فسألنى :
       - لماذا تضحك .. أرأيتها ..؟
       فأجبته وقد استغرقت فى الضحك :
       - لا .. وإنما رأيته هو ..
       ثم أردف :
       - البواب ..؟ .. إنه أحمق ..
       - ولماذا أعطيها ..!
       - هذا توحش .. إنها فقيرة .. ولم تصعد إلى الطابق التاسع لتشاهد مجموعة صور روفائيل ..
       - عدنا إلى الفلسفة .. فقيرة .. لماذا لا تغير طريقة حياتها وتنهج نهجًا مستقيمًا ..! لماذا تصبر على الضيم ..! أنا لست مسئولاً عن هذه الحشرات ..
       وكان الجدال ، مع رجل هكذا شأنه وطريقته فى الحياة لا يجدى ، فصمت وعاد إلى الجعة ..
***
       وكان الليل قد أقبل ، وبدت المساكن المحيطة بنا تعلوها جهامة الحرب .. وسمعنا صفارة الإنذار .. وسرت فى جسمى رعشة .. وتحركت من مكانى ، وتمشيت قليلاً ، ثم عدت ، وقد أخجلنى أنه لم يتحرك ، ولم يغير مجلسه ، ولم يدع كأسه من يده .. ولم تضطرب فيه جارحة ..!
       وبقيت جالسًا فى مكانى .. وغاظنى صمته ورباطة جأشه .. وكنت أود أن أتحرك ، أو أتحدث ، فقد كانت وطأة الصمت ثقيلة على نفسى ، وكانت الغارة تقترن فى ذهنى دائمًا بالأشلاء الممزقة .. والأجسام المدفونة تحت الأنقاض ، والذاهبة فى الجو إربا ، وكل ما هو من هذا بسبيل ..
       وأخذت ألعن الحرب ، وما جرته على الإنسانية من ويلات .. وألعن صاحبى فى سكونه وقوة أعصابه .. وأدركت بعد هذا السكون العميق ، وفى خلال ذلك الصمت الشديد .. لماذا يستمع الناس للموسيقى أثناء الغارة .. ولماذا يمزحون ويضحكون .. فإن الصمت والسكون فى هذه الساعة الرهيبة معناه قتل النفس ، وتمزيق الأعصاب والسير فى طريق الجنون وسمعنا .. صوت المدافع المضادة .
       فسألته :
       - ألا تنزل إلى المخبأ ..؟
       فأدار رأسه ، وكان يبتسم ، وقال فى صوت هادئ :
       - مخبأ إذا شئت أن تنزل فانزل ، أما أنا فسأبقى هنا ، وما من شيء سيجعلنى أتحرك من مكانى .. حتى ولو انطبقت السماء على الأرض ..! أنا طبيب يا رشاد .. وطبيب نفسانى قبل كل شيء .. وأقول لك إن تسعة أعشار ضحايا الغارات الجوية من منخلعى القلوب .. الذين يرتعدون فزعًا من لاشيء .. والغارة قلما تصيب الرجل الكامل الحواس بسوء قط .. وأنت تسمع عن الحاسة السادسة للجندى فى الميدان .. إنها اليقظة .. يقظة الحواس .. فتيقظ واجلس فى مكانك آمنا ..
       - ألا تفكر فى أنك قد تصاب بسوء ..؟
       - إن هذا لا يغير من الأمر شيئا .. ولن أرقد فى حياتى إلا رقدة واحدة ..
       وعاد إلى طبعه فصمت .. واستغرق فى تأملاته .. وكانت زجاجة الجعة قد فرغت ، فنهض وجاء بزجاجة أخرى .. وملأ كأسى وقال ، وهو يرفع كأسه إلى شفتيه :
       - فى صحة سوسو ..!
       فقلت وأنا أضحك :
       - فى صحة سوسو ..!
       ثم سألته :
       - ومن هو سوسو هذا ..؟
       - ألا تعرف سوسو ..؟
       - أبدا ..
       - سوسو هو صديق نعمات هانم .. وأنت لا تعرف نعمات هانم بالطبع .. فى نهاية هذا الشارع ، تجد منزلاً أنيقًا من طبقات خمس .. وهو يستهويك بحسن منظره ، وجمال موقعه .. وفى الطابق الثالث منه تسكن نعمات هانم .. قرعت هذه السيدة بابى فى ليلة من الليالى ، وكانت متغيرة اللون ، ويبدو عليها الاضطراب الشديد .. حتى تصورت أن نازلة نزلت بالأسرة .. وكانت فى ثوب وردى جميل .. ورأيت وجهها على ضوء المصباح الكابى .. وعينيها السوداوين وهما تبحثان عن وجهى .. ولعلها كانت تود أن تتثبت منى أولا .. إذ بادرتنى بالسؤال فى صوت رقيق :
       - حضرتك .. الدكتور عرفى ..؟
       - أجل يا سيدتى ..
       وكنت لا أزال ممسكا بقبضة الباب .. وكانت لا تزال فى الخارج ، ووقع بصرى على صدرها ، بعد أن سكن اضطرابها بعض الشيء ، وعاودها بعض الهدوء .. ورأيت وجهها مرة أخرى خارج دائرة الضوء .. رأيته يضئ فى الظلام ..
       فأحنيت رأسى ، وقلت :
       - تفضلى يا سيدتى .. أنا فى خدمتك ..
       - إنه سوسو .. يا دكتور .. وقد تركته وحده فى المنزل .. يجود بأنفاسه .. فأرجوك .. عجل ..
       وتناولت الحقيبة على عجل ، وذهبت معها إلى بيتها ..
       فتحت بابها .. ودخلت وراءها فى سكون ، واجتزنا البهو ، ومشينا فى ممر طويل .. ودفعت بابا صغيرا ، وأشارت بيدها .. فدخلت غرفة رحيبة مؤثثة بفاخر الرياش ..
       وأدركت ، بعد السكون الذى طالعنى من جوانب البيت ، أنها تمرض سوسو وحدها .. وتقدمت نحو سرير صغير وغمغمت :
       - سوسو العزيز ..!
       ورفعت غطاء من الصوف السميك .. وتصور سوسو العزيز هذا ..! كان كلبا أبيض .. وكان المرض قد أحاله قذرا ، بشع المنظر ..
       فنظرت إليها فى غيظ ، وقلت لها بصوت جاف ينم عن غضبى :
       - أنا طبيب بشرى يا سيدتى .. وهذا كلب ..
       - انا أعرف انك طبيب .. وهذا يكفى ..!
       - أرجو أن تسمحى لى .. قد أضعت وقتى يا سيدتى .. إن هذا عبث ..
       وكانت معتمدة على حاجز السرير ، تلاحظنى بجانب عينيها ، وأنا أرد الأشياء إلى الحقيبة ..
       وتناولت الحقيبة بيدى اليمنى وواجهتها .. فرأيت لونها قد تغير ، وعاودها ذلك الأضطراب الذى بدا على ملامح وجهها .. عندما كانت فى بيتى .. وتحرك انسان العين ، وارتسم الأسى على الشفة ، وجال فى عينيها الدمع ..
       وقالت فى صوت رقيق :
       - أنا لا أفرق بين هذا الكلب .. وبين أى إنسان يا دكتور .. وأنت تعرف إحساس المرأة ، ورقة عواطفها ..
       - وجهى عاطفة الخير فيك يا سيدتى إلى ما هو أسمى من هذا ، إلى الأطفال الفقراء من بنى جنسك ..
       ومضيت إلى الباب .. ومشت ورائى .. وقبل أن ابلغ البهو الخارجى ، سمعتها تقول فى صوت باك :
       - دكتور عرفى .. أنتظر .. ارجوك .. 
       فتلفت .. وأمسكت بيدى ، ونظرت إلىّ نظرة آسرة :
       - أنت طبيب وهذا كلب يتعذب .. افعل شيئا أرجوك ..
       - لا حيلة لى يا سيدتى ..
       - افعل أى شيء لتسكين آلامه .. إنه لا يستطيع أن يتكلم .. أو يبث لواعجه كما يفعل الإنسان .. أعطه مسكنا ..! إنه خير عندى من أى إنسان .. إنه يؤنسنى فى وحدتى .. ويملأ البيت كله حركة .. ينبح ويقفز على الكراسى ، ويلعب فى كل مكان .. ويسهر معى فى الليل .. إنك تعرف العذاب الذى تعانيه المرأة ، وهى جالسة وحدها فى انتظار الرجل .. ويمر نصف الليل ، والساعات الأولى من الصباح ، وهو لا يعود .. وهى ساهرة فى قلق وعذاب .. فإذا عاد أخيرا ، كان ثملا .. أو محطما على مائدة القمار .. أنت تعرف هذا .. افعل شيئا لأجلى ، ولأجل هذا المسكين ..
       إنها مسكينة ، وقد رماها الله بشر ما تصاب به المرأة ، وهو الزوج المقامر .. ولقد حطم الأرق أعصابها ، ومن يدرى ، ربما ذهب هذا الخيال ، وانطفأ ذلك السراج إلى الأبد ..
       ورجعت ، وبذلت ما فى وسعى حتى سكن اضطرابها ، وعادت الابتسامة إلى شفتيها .. وأصبح سوسو من أعزائى ..!
***
       وحدث أن مراقبين من مراقبى المنائر تشاجرا فى منارة فى البحر الأحمر ، وكنت معه فى السويس ، وكان هو طبيب الباخرة التى ستذهب إلى هذين الجريحين .. وتأتى بهما حيين أو ميتين .. وألح علىّ فى أن أرافقه فى هذه الرحلة ، فاعتذرت ، فقد كان الوقت شتاء ، والبحر مركبه صعب ، بيد أنه عاد يلح ويقول :
       - سترى أبدع منظر .. البحر والليل .. وكلاب البحر .. ثم الأسماك الصغيرة التى تأكلها الحيتان الكبيرة ، ولا أحد يسمع صراخها وعويلها .. كل شيء ذاهب فى جوف المحيط ، ثم عروس البحر التى اقتتل عليها هذان الأحمقان ..!
***
       وأقلعت السفينة ، وكان البحر هائجا ، والموج يعلو كالجبال ، والعواصف نكباء ، والسفينة تتلاعب بها الأمواج ، وتعوى فى بروجها الأعاصير ، ومع هذا ، فقد ظللنا طول الطريق نضحك ونمزح ، لأنه كان معنا ، وكان إذا اشتد الموج ، ومالت السفينة اتكأ على الحاجز الحديدى ، وصاح بأعلى صوته :
       - جيوفانى ..
فسألته :
       - من هو جيوفانى هذا ..؟
       - ألا تعرف جيوفانى .. إنه كازانوفا ..!
       فتركته يهذى ..!
***
       وأخذت أفكر فى هؤلاء الناس الذين يعيشون فى هذه المنائر منقطعين عن العمران .. إنهم بواسل ولاشك ، وحياتهم فريدة حافلة بالعجائب وجمح بى الخيال ، وتصورت هذين الجريحين ، وقد مات أحدهما قبل أن يصل الطبيب ، وبقى الآخر بجواره يتعذب ، ويتلوى من الألم ، ومن الرائحة الكريهة التى تنبعث من جثة رفيقه .. وسرت فى جسمى رعدة وحدثت الدكتور عرفى بما يدور فى رأسى ..
       فنظر إلىّ ضاحكا وقال :
       - إنك لأحمق يا رشاد .. وأعصابك تالفة .. وتشحن رأسك بالأوهام .. وهب أن هذا حدث .. فماذا فى هذا ..! سترى كيف يعمل فيهما مشرطى ..! إن المسألة عادة .. وأنت ترتعش عندما ترى وجه ميت ، بينما ينبش اللحادون القبور ، ويسرقون أكفان الموتى ! .. " .
       وتركنى وصعد إلى برج السفينة ..
***
       وكان لابد أن تنتهى حياة ذلك الصديق الفذ بفاجعة .. وقد كان .. وما رقد فى حياته سوى رقدة واحدة كما كان يقدر ..
========================================
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
======================================== 











قلب عذراء

-      لمن هذه الرسالة ..؟
-      لأبى ..
-      ما أجمل خطك .. ما الذى كتبته ..؟
-      حدثته عنك ..
-      عنى أنا ..!  ما الذى قلته ..؟
-      إنك طيبة للغاية ..
-      هذا حسن .. ثم ماذا ..؟  
-      وأنى عوفيت ولله الحمد ..
-      وستبرح المستشفى بعد أيام .. هذا هو المهم .. وسأبقى وحدى ..! 
ونظرت إلى المريض نظرة طويلة ، ووجهها فائض بالبشر ، ثم ارتدت عن السرير ، بعد أن دفعت خصلة من الشعر عن جبينها .. وحركت قدح الشاى من مكانه .. ومشت إلى النافذة فهصرت سترها ، وأطلت على الحديقة المورقة ، وقد غمرها نور الشمس ، ونفذ خيط أبيض من النور إلى الغرفة .. ورأى المريض شعاع الشمس فى الصباح المقرور ، فتألق وجهه ، وقال وعيناه إلى النافذة :
-      لماذا لا تخرجين معى ..؟
فتحولت الممرضة على صوته ، وكأنما أيقظها من حلم مستغرق .. وتراجعت عن النافذة وواجهته ، وقالت فى صوت طروب :
       - أخرج معك ..؟ وتأخذنى ..!
       فقال وهو يدفع عنه الغطاء :
-      بالطبع .. ولم لا ..!
فابتسمت ، وصمتت لحظة ، وفى عينيها إشراق وسحر ، وعلى شفتيها نشوة الحالم ..
وقالت بصوت حلو ، وقد رأته يضغط على الجرس :
-      ما الذى تريده ..؟
-      طابع بريد لهذه الرسالة ..
-      هاتها وسأتولى إرسالها ..
-      كيف أشكرك ..؟
-      هكذا .. أعطنى يدك ..
-      هالوا ..!
-      هالوا ..!
وضحكت حتى رقص قلبها من الضحك ، فقد أخذ المريض يقلد " السستر " وهى تتحدث مع أخيه ، كان قلدها ببراعة فى صوتها ولهجتها ، حتى تمايلت الممرضة من الضحك ، ثم غالبت نفسها وتماسكت ، فقد سمعت صوت أقدام تقترب ، وقرب وقع الخطوات ولاح صاحبها على باب الغرفة ..
ونقر نقرا خفيفا على المصراع الأيسر ، ثم اجتاز الباب ، وقد تمهل فى سيره ، وخفف من وقع نعليه .. وحيا الممرضة وهو باش الوجه ، طلق المحيا ..
وقال وهو يتقدم نحو سرير أخيه :
-      كيف أصبحت ..؟ 
فقالت الممرضة فى صوت ناعم ، وقد تقدمت خطوة ، واقتربت من النافذة ، حتى سقط شعاع الشمس على شعرها :
- أنظر إلى وجهه ، وحمرة الدم فى وجنتيه .. إنه اليوم على أحسن حال ..
-      كل ذلك بفضلك ..
-      لا تقل هذا .. كله من فضل الله ..
وخلعت باقة من الزهور من زهريتها .. ثم دفعت عربة صغيرة عليها آنية الشاى .. وقالت ، وهى تتجه بها نحو الباب والابتسامة تتألق على ثغرها :
-      سأعود .. حالا ..
وشيعها المريض ببصره حتى توارت ..
***
وقرأ حسن لأخيه رسالتين من الريف .. ونشر أمامه بعض الصحف المصورة .. وطفق يحادثه إلى أن جاء طبيب الصباح ، وسر لما رآه على وجه المريض من دلائل العافية .. أمسك بيده هنيهة ، ثم خط شيئا على اللوحة المعلقة على واجهة السرير .. ثم حيا وانصرف ..
       وجلس حسن على كرسى طويل أمام الشرفة ، وأرسل بصره إلى الحديقة المزهرة التى تحف بالمستشفى ، وقد أخذ نسيم الصباح يرنح أشجارها ، ويداعب أزهارها ، ويمايل أعطاف بانها .. وذابت برودة الليل فى حرارة الشمس الفائضة .. وتفتحت براعم الأزهار .. وبدت طلائع المرضى فى الحديقة ، وهم يسيرون الهوينا فى مماشيها .. وانتشروا فى أرجائها .. وجلسوا على الكراسى الخشبية البيضاء فى ممرات الحديقة يستدفئون بحرارة الشمس ، ويتحادثون فى هدوء .. وعلى وجوههم آثار المرض ، والحنين إلى العافية .. والشوق إلى الحرية ، والانطلاق من هذا الأسر .. الانطلاق من هذا الجو الراكد القابض ، إلى حيث الحياة بضجيجها وصخبها ..
       وكان الذين قد مضوا شهورا فى هذا المستشفى ، قد استنزفت حيويتهم ، وخمدت حركتهم ، وخف نشاطهم .. فاستراحوا على الخشب الممدود فى الشمس يصطلون ، ويجرون الحرارة فى أبدانهم ، مستسلمين راضخين .. وكانوا ، وهم ينظرون إلى ما وراء الحديقة ، ويتخطون ببصرهم السياج الحديدى ، يشعرون بالأسى والحنين الفارط إلى ما كان .. يتوقون إلى حياتهم الماضية الحافلة بالنشاط والعمل .. حتى الذين كانوا يلاقون إعناتا من الدهر ، وآلاما من الأيام ، كانوا يودون من أعماق قلوبهم لو يفتح لهم السور الخارجى على مصراعيه ، لينطلقوا إلى الحياة من جديد .. كان هذا السور الحديدى المحيط بهم حدا فاصلا بين الحياة والموت .. سدا قائما لابد أن يتخطوه ، ويجتازوه إلى بحر الحياة الزاخر ..
       كان وجودهم بالمستشفى يذكرهم بالموت ، ويبعث فيهم الرعب ، ويجعلهم يخضعون للأوهام .. كانوا يرون العربة الحمراء المقفلة تجئ كل يوم ، وتبقى فى فناء المستشفى ساعة من الزمان .. ثم تخرج مع الشمس الغاربة سائرة على مهل ، فلا تسمع لمحركاتها دويا ، ولا لعجلاتها صوتا .. كانت تجتاز ممر الحديقة الطويل ، إلى الباب الخارجى فى أكثر من ثلاث دقائق كأنها طفل يحبو .. فاذا انخرطت فى الطريق غذت السير ، وانطلقت كالسهم حتى تتوارى عن الأنظار .. كانوا يشيعونها ، وعيونهم مغرورقة بالدمع ، ووجوهم كاسفة حزينة .. وقلوبهم تتقطع على من فيها حسرات .. كانوا يعرفون أنها لا تخرج فى هذه الساعة من النهار فارغة أبدا .. كانت تحمل فى جوفها بعض نفوسهم .. بعض من قضى معهم أياما طوالا ، متألما شقيا ، ثم تداركه الله برحمته فذهب مع الذاهبين فى غير رجعة ..
       عادت الممرضة ، بعد مدة طويلة ، فألفت حسنا مضطجعا على كرسى فى الشرفة ، وعينه إلى السماء الصافية ، وقد غفل عما حوله ، فانسابت فى لين حتى وقفت أمامه .. فرفع وجهه إلى وجهها المشرق ، وقال وهو يبتسم بسمة الرضى :
-      كيف أصبحت ..؟
-      كما ترى ..
-      على خير حال ..
-      أرجو ذلك .. أعائد فتحى إلى المدرسة ..؟
-      لا أظن ذلك .. سيذهب إلى الريف ..
-      هذا أحسن .. فهو فى حاجة إلى الراحة ..
-      لماذا لا تذهبين معه ، وتمضين أياما فى القرية ..؟
-      أنا ..! لا أستطيع ..
-      لماذا ..؟
-      العمل .. والمرضى .. والعقاقير ..
-      استريحى من هذا قليلا ..
-      ليتنى أستطيع ..
وصمتت لحظة ، ثم أضافت بصوت حزين :
ليس للتنزه أو التنقل قيمة فى نظرى .. ما دمت أعيش هكذا .. مرضى وعقاقير .. رائحة الكلوروفورم .. الأربطة .. الضمادات .. آلات الجراحة .. معاطف الأطباء الجلدية .. قفازات الوقاية .. المشارط .. المباضع .. أوه .. ثم وجوه الممرضات أخيرا ..!
- ومن أجبرك على هذا كله ..؟  لقد تطوعت بمحض رغبتك لهذا العمل الإنسانى .. فلماذا الأسف .. ولماذا هذا الحزن ..؟
فنظرت إليه نظرة طويلة ، واكتسى خداها بلون الأرجوان ، وقالت بصوت ناعم :
-      اخفض صوتك .. فقد نام أخوك ..
فحول رأسه إلى سرير أخيه برهة ، ثم سألها :
-      لماذا جئت إلى هنا ..؟
- وأين كنت أذهب ..؟ لا أب ولا أم .. ولا أخ ولا صديق .. أين تذهب فتاة فى مثل سنى .. لقد جاء إلىّ الرجال بعد أن ذهب أبى .. كانوا يريدون ثروتى .. لم أكن فى سن الغريرة .. كنت أعرف هؤلاء جيدًا .. فرفضتهم فى احتقار .. ومرت السنون .. وانصرفت بكليتى عن الزواج .. ومللت الوحدة .. أأذهب إلى المحافل والمراقص .. وأدور مع كل رجل .. وأنطلق إلى كل مكان .. وما لأحد سلطان على ..؟ .. لم لا ..؟  فمن حقى أن أعيش وأنعم بأطايب الحياة .. وأخرج من هذا الظلام .. كان هناك ظلام سرمدى وشتاء دائم .. كنت أقضـى النهار فى القـراءة ، وزيارة بعض صاحباتى .. ولكن الليل .. الليل الطويل فى الشتاء ..
وفى صباح يوم جميل ، زارتنى صديقة من رفيقاتى فى المدرسة ، وكانت فى لباس أبيض ، وغطاء رأس أبيض ، وحذاء أبيض فبدت أمامى كالملاك .. وضممتها إلى صدرى ، فى نشوة وسرور ، وعلمت أنها تطوعت فى أحد المستشفيات .. وأوحت إلىّ صديقتى بالفكرة ، واختارت لى خير طريق تسلكه فتاة فى مثل سنى .. وفى مثل حالتى .. وبعد أيام كنت هنا .. وكنت أشعر ، فى أول الأمر ، بلذة عظيمة كلما أدركت أنى أنقذ نفسا بشرية من العذاب ، وكانوا دائما يرسلوننى إلى غرفة الدرجات الأولى الممتازة ، ولكننى أرفض هذا وأقول لهم إنى أود أن أذهب إلى الطبقات الفقيرة أولا .. فالأولون معهم المال ، والمال يفعل فعل السحر فى كل مكان فى الأرض ، أما الآخرون فلا مال معهم ، ولا عائل يعولهم ، ولا زائر يزورهم ، ويواسيهم فى آلامهم .. ورأيت فى هذه الأقسام وجوها لا تنسى .. فقرا لا يدركه العقل ..
وبعد أيام تحطمت أعصابى ، وكنت أحلم بهذه الوجوه البائسة فى الليل .. وأخيرا جئت إلى هنا .. وقد تركونى على هواي .. وأخشى أن أمل ، وأنفض يدى من العمل نهائيا .. وأنا الآن اتخير المريض ..! وعندما جاء أخوك نظرت إليه طويلا .. فأدركوا أننى أعطف عليه ، فقد كان صغيرا ، وفى وداعة الحمل ، وكان يتألم .. فتركوه لى .. وسيذهب ويفلت من يدى كغيره .. وأنا أفتح عينى على أحلام جميلة تمضى ..
-      إنك ملاك ..
-      أشكرك ..
ووقفت أمامه ، تنظر إليه فى ابتسام وخجل .. ثم سمعا حركة فى الممر الكبير .. فبارحت الشرفة على عجل ، فقد كان كبير الأطباء يعود المرضى ..
***
       إستأذن حسن من طبيب المساء فآذن له فى أن يبقى فى المستشفى هذه الليلة كما يشاء ، فخرج إلى المدينة وعاد قبيل الغروب ، وكانت إحسان هانم " الممرضة " فى وقت راحتها ، فشعر ، لخلو المكان منها ، ببعض الوحشة .. ولما رآها بعد ذلك تسعى ، فى ثوبها الأبيض الجميل ، فى بعض طرقات المستشفى ، أحس بسرور محض .. وزاده سرورا أنها كانت تبدو ، فى هذا المساء ، فى أبدع زينة وآنق ملبس .. وساوره شعور الرجل الذى تتطيب له المرأة وتتزين ، والذى يدرك أنه شغل تفكيرها ، واحتل شعورها إلى حين ..
       ولما جاءت تتهادى ، ووقفت بجوار سرير المريض ، كان يطالع ووجهه إلى الشرفة ، فلم يحس بها عند دخولها ، ثم استدار بعد أن شعر بجو عطرى يشيع فى أرجاء الغرفة ، فرآها منحنية على السرير تضم إليه بعض الأغطية .. فبقى ناظرًا إليها فى استغراق وصمت ، حتى اعتدلت ، وحولت وجهها إليه على مهل ، إلى  أن وقع نظرها على نظره ..
       فقالت .. وكأنها تراه لأول مرة :
-      ألا زلت هنا ..؟
-      أجل .. أتحبين أن أذهب ..؟
فصمتت ولم تجب ، وإن كانت عيناها قد أجابتا أحسن جواب ، وأنداه على قلبه .. وبقيت لحظة أمامه موردة الوجنتين منفرجة الشفتين ، ذابلة العينين .. ظاهرة الحياء .. ثم انسابت فى خفة ورشاقة إلى الشرفة ، لتخفى ما بدا على وجهها من خفر ..
وكان الليل قد بسط رواقه ، وبدت الأنوار تسطع فى نوافذ المستشفى ، وترسل الأضواء الوهاجة إلى الخارج .. وكانت الحديقة الرحيبة التى تطوق المستشفى ، والأشجار الضخمة التى فى الجانب الشرقى من الحديقة ، تبدو فى وحشة الليل ضخمة مستعجمة ، وزادها رهبة ووحشة ، أن رياح الليل كانت ترنح فروعها أكثر مما تهز جذوعها .. فبدت كعمالقة الليل ، وهى تتصارع فى صمت وهول ..
ووقفت إحسان هانم لحظات تتأمل فى سكون الليل ، غافلة عن المستشفى ومن فيه ، وكأنما عداها الظلام بوحشته ورهبته .. فسرت فى جسمها رعدة ، وتقبضت نفسها ، وواجهت حسنًا بعينين غائمتين ..
فسألها ، وقد عجب لتطور حالها :
-      ألا تجلسين ..؟
فأجابت فى هدوء ، وقد عاود وجهها النور ، وانمحى ما ارتسم عليه من ظلال حالكة تدريجيًا :
-      ليس الآن .. سأجئ بعد دقائق .. أتبقى هنا طويلاً ..؟
-      إلى أن تطردينى ..
فابتسمت ولم تقل شيئا .. ومشت نحو سرير المريض ، وكان يطالع المجلات المصورة .. فلما أحس بها رفع عينيه عن المجلة ، ونظر اليها مبتسمًا وقال :
-      أتحبين هذه ..؟
-      عندما كنت فى مثل سنك .. كنت أقرأ هذه ..
-      والآن .. أنت تقرأين الكتب الضخمة كحسن ..؟
-      أجل .. وعندما تكبر ستقرأ الكتب الضخمة مثلنا ..
-      أتظنين هذا ..؟
-      طبعا ..
-      سأكون مهندسا .. ولن أضيع وقتى فى قراءة الكتب ..!
واستغرقت فى الضحك .. وحولت وجهها نحو حسن ، فرأته يبتسم ..
ومالت على المريض ، وسألته بصوت خافض :
-      ألا تود شيئا ..؟
-      لا شيء غير عافيتك ..
-      وغير هذا ..؟
-      لا شيء ..
-      ألا تود قبلة ..؟
-      قبلة ..؟
-      أجل .. قبلة ..
-      ومن يعطينى هذه القبلة .. السستر ..؟
-      واحدة تحبك أكثر من السستر ..
-      من هى ..؟
-      ألا تعرفها ..؟
وبدا وجهه أحمر كالورد ، ودفن رأسه فى الوسادة فمالت عليه ، وقربت وجهها من وجهه ، وهو يدفعها عنه بيديه .. ثم وضعت شفتيها على شفتيه ، وولت هاربة ..
***
       خرج حسن إلى حديقة المستشفى ، وأخذ يمشى فى أرجائها فى سكون ، وبصره إلى ما فيها من رواء وحسن ، وكان كل ما حوله يبعث على السكون والصمت .. ورجع يذكر ، وهو يجتلى مجالى الطبيعة المحيطة ، أيام صباه فى الريف ، أيام كان يجرى فى المزارع ويتخطى الجداول ، ويسبح فى النهر ، وينطلق بالجواد على الجسر .. ثم ارتد عن القرية ، واستقر فى المدينة ، وأصبح واحدا من أهلها ، وغدا لا يرى منظرا ممتعا ، وإن رآه لم يلتفت إليه ..
       وكان كسائر الذين ينتقلون فجأة من هدوء الريف ، إلى صخب المدينة ، فيحسون أول الأمر بالضيق الشديد ، وبمثل طرق الحديد على أعصابهم .. ثم يرضخون لحكم الواقع ، ويألفون هذا الضجيج ويستطيبون عيش المدينة على الأيام .. على أن حنينهم إلى الريف لا ينقطع جملة .. بل تراه يعود ويشتد فى أشد ساعات النفس كربا ، وأعظمها ضجراً ..
وكذلك كان حسن وهو يتمشى وحيدًا فى الحديقة ، فقد أحس بالاكتئاب الشديد ، واستيقظ فيه ما كان منسيا .. فقد انتقل من الريف إلى المدينة ، ومضى فى زحمتها ، ودار مع العجلة الكبيرة فيها واستغرق بكليته فى عمله ، ونسى أن هناك وقتا للراحة ، ووقتا للتنفس .. وألفت عينه الدخان ، وأذنه ضجيج المركبات والعجلات ، ولم يعد يستريح إلا حيث زحمة الناس ، فكان لا يسكن إلا فى الأحياء المكتظة بالسكان ، ولا ينام إلا على صوت العجلات ، ولا يستيقظ إلا ساعة السكون المطلق .. ونسى الريف أو خيل إليه أنه نسيه .. إلى أن مرض أخوه ونقل إلى المستشفى فى تلك الضاحية .. فكان يذهب إليه فى الصباح المبكر ماشيا .. ويرى الأشجار والأطيار ، ويخيل إليه أنه يراها لأول مرة .. فإذا تأخر فى الليل عاد وقد طلع القمر ، فكان ينظر إليه ، وكأنه ما رآه من قبل أبدا فى سماء المدينة ، وتيقظت مشاعره وأزيحت الغشاوة عن بصره .. وأخذ يفكر فى الجمال والسكون ، وروعة الطبيعة وحسنها .. فليست الحياة فى ذلك الضجيج ، وليس على المرء أن يتعلق بهذه العجلة الدوارة إلى أن تسحقه بين تروسها .. شعر بالأسى على ما فات ، لقد كانت حياته عملا دائما .. لا راحة بعده .. إلى أن جاء إلى هذا المستشفى ، ورأى الطبيعة السافرة ، والسكون والجمال ، والروض ، ووجه إحسان ..
كانت الصور تمضى فى ذهنه واضحة ، ونشط لها جسمه ، وانتشى حسه .. واعتمد على السور ، وغاب ببصره فى الظلام  المخيم ، واستغرق عما حوله .. حتى استيقظ على صوت إحدى الممرضات ، وهى تهتف به فسألها :
-      ماذا ..؟
-      أخوك يسأل عنك ..
فمضى إلى الغرفة ، وقال لأخيه :
-      نعم يا فتحى ..
-      ألا تود أن تأكل معى ..؟
فابتسم وقال :
- أشكرك ، سأتعشى فى الخارج .. وليس من عادتى العشاء فى هذه الساعة كما تعرف .. 
فانحنى المريض على الطعام .. وجاءت بعد فترة قصيرة "السستر" ومدت يدها إلى حسن ، وتقدمت نحو سرير المريض وسألت :
-      الطعام جيد ..؟
فصمت المريض ، وظهر على وجهه الخجل ..
فقال لها حسن ، وقد حلا له أن يزيد فى ارتباك أخيه :
-      إسأليه .. هل هو كفاية ..؟
فقالت وهى تضحك :
-      صحيح ..؟ .. ما كنت أعرف أنه أكول ..
ونظر حسن إلى رئيسة الممرضات ، وهى تخفى ابتسامتها ، وكانت على جانب كبير من الثقافة والذكاء ، ومع أنها تخطت الأربعين فلا تزال عليها نضارة الشباب ، وكانت بشرتها نقية ، وعيناها زرقاوين ، وكان حسن يرى فى أعماق عينيها سرا هائلا ليس إلى معرفته من سبيل .. وكان كلما نظر إليها فى سكون وقوة ، حولت وجهها عنه .. وكأنها تقول له :
-      لا تحاول هذا ..
ومشت إلى واجهة السرير ، وقرأت ما سطره الطبيب على لوحة المريض .. وظهر على وجهها السرور ..
وأحنت رأسها لحسن ، وخرجت من الغرفة ..
وبلغت الساعة الثامنة ، وخفت الحركة فى المستشفى وعاد كل شيء ساكنا ، وتطرح حسن على كرسى طويل ، وجلس صامتا ، وقد عداه السكون الذى خيم على كل شيء وشعر بحنين زائد إلى رؤية إحسان هانم وكان يشعر نحوها فى الأيام الأخيرة بعطف شديد وحنان أكيد ، وكان مع سلامة أعصابه وقوة إرادته لا يستطيع أن يمسك قلبه عن الخفقان كلما رآها .. ولكنه لم يكن يتحدث لها عن عواطفه ، وما يحمله لها من الحب .. بل كان يطوى نفسه على ما فيها ، ويمضى كما يمضى الرجل ..
ولما جاءت استقبلها بابتسامة لم ترها على وجهه من قبل ابدا .. وكانت قد ازينت ولبست أحسن ما عندها ، وشعر لذلك بسرور عظيم .. وأخذت تحادث المريض أكثر مما تحادث حسنا ، وقد فاضت نفسها سرورا وحبورا ..
وظلوا يتحادثون حتى مضى جانب من الليل ، وأطفئت الأنوار فى كثير من الغرف ، وهيأت إحسان السرير للمريض ، بعد أن ضمت إليه بعض الأغطية ، وأنزلت الستر على النوافذ ..
وقالت لحسن بعد أن نام أخوه :
-      هل ستنام هنا ..؟ إذا شئت أعددنا لك السرير الأخر ..
-      أشكرك .. سأنام فى بيتى .. إنه الآن بخير ..
- ولكنه يصحو دائما فى الليل .. ويسأل عنك .. وإذا أدرك أنك خرجت .. تحير فى عينه الدمع .. فأنحنى وأقبله وأفعل كل شيء لأسليه ، ولكنه يظل يبكى فى سكون .. لابد أنه قضى طفولته كلها معك حتى أصبح متعلقا بك إلى هذا الحد ..
- إنه معى منذ ترك القرية إلى المدرسة .. من الخامسة إلى الآن .. وهو لا يفكر فى أبيه بقدر ما يفكر فى ..
- إذن لا داعى لخروجك الآن .. وابق بجانبه إلى أن أعود وانسابت إلى الباب فى خفة ولين ..
ولما عادت كان حسن قد اضطجع على الكرسى ونام .. ووقفت خلف كرسيه ساكنة ، وودت لو تمسح بيدها على شعره ، وتمر بأناملها على جبينه ، أحست بضربات قلبها ، وحنين نفسها ، وكادت تفلت منها إرادتها ، وتتغلب عليها عاطفتها .. ودت لو انحنت عليه وطوقته بذراعيها ، ودفنت رأسها فى صدره .. كانت فى حاجة إلى من يحنو عليها ، ويبادلها عواطفها .. كانت أنوثتها ناضجة ، ولكنها لم تكن تجد فى الجو الذى تعيش فيه حرارة الشمس ودفئها .. كانت تعيش فى برودة شديدة أذبلت نفسها ، وصوحت جسمها ، وذهبت بكثير من جمالها وفتنتها .. كان قلبها قد أدركته الشيخوخة وهو لا يزال صبيا .. وكانت روحها حائرة قلقة .. وأخذ سراج حياتها فى الذبول .. كان عليها أن تعيش هذه الحياة الجافة راضخة مستسلمة لحكم الأيام ، حتى يقضى الله أمره ..
لم تكن من أولئك الفتيات اللواتى يفتحن قلوبهن لكل طارق ويلقين أنفسهن فى أحضان كل رجل .. كانت امرأة لها طهارتها ، ونقاء جسمها ونفسها .. كانت تود الرجل الذى يكون لها وحدها ، وتكون له وحده .. كانت تعرف أن الحياة للمرأة لا تكون بغير الرجل .. ولكن أين الرجل الذى يملأ فراغ قلبها .. ظلت تبحث فلم تجد ، كان هناك شبان يريدون اللهو ليس إلا ، وشيوخ فى طريقهم إلى القبر .. ردت هؤلاء جميعا .. وعاشت لنفسها ، وقنعت بوحدتها .. ووجدت فى الحنان على المرضى أخيرا عزاءها الوحيد وسلواها .. وأكسبتها هذه الحياة نوعا من الفلسفة الفطرية فعاشت فى ظل القناعة ، وبعدت بكليتها عن الرجل .. إلى أن جاء حسن والتقت به فى هذا المكان .. وشعرت نحوه بعاطفة غريبة مبهمة ثم تكشفت على الأيام ، وتحركت أنوثتها من أعماقها ، وخفق قلبها لأول مرة فى حياتها .. وكانت عندما تقبل أخاه تتصور أنها تقبله ، ولذلك كانت تحس بالتهاب شفتيها ، واهتزاز عودها ..
وهو الآن معها ولها .. ولماذا لا يكون لها .. لماذا لا يتحقق هذا الحلم ..!
وأسبلت عينيها .. ووضعت يدها على قلبها .. لماذا لا تقبله لماذا لا ترتمى بين ذراعيه ليأخذها فى أحضانه ..!
واستغرقت فى أحلامها ..
وانتفضت على زنين جرس فى الممر الخارجى .. فبارحت الغرفة ..
***
وحدد اليوم الذى سيخرج فيه فتحى من المستشفى ، وأخذت إحسان هانم تخرج ملابسه من الدولاب الصغير فى الغرفة ، وترتبها فى حقيبته ، وكانت تخفى حزنها ، وما يعتلج فى قلبها ، وتتظاهر بالسرور وكثر ضحكها لسبب ولغير ما سبب ، حتى عجب حسن لحالها ..
وفى صباح اليوم المحدد لخروج المريض ، جاء أبوه ومعه بعض ذوى القربى .. وكان رجلا فارعا قوى الجسم ، متقد النظرة ، جم النشاط ، كثير الحركة .. ومع أنه لم يمكث فى المستشفى أكثر من ربع ساعة ، فإنه أشاع الرعب فى أرجائه .. فقد كان يتحدث بصوت رنان من أعلى طبقة ..! ويلقى الأوامر على كل من يقع تحت بصره .. وكل إنسان عنده ولد .. فحسن ولد .. وكل من جاء معه من القرية أولاد ..!
-      روح يا ولد .. تعال يا ولد ..
 بهذا كان يصيح طول الوقت .. وكان يكلف واحدا بعمل ، فيتحرك ثلاثة فى وقت واحد ، فقد كان صوته يفزعهم ، ويجعلهم يضطربون ..!
ووقفت إحسان هانم فى زاوية من الغرفة ترقب هذا الرجل وقد علت وجهها ابتسامة الإعجاب .. وكان حسن قد انكمش أمامه وتضاءل ، ولم يعد له وجود ..! وكذلك الباقون ..
ورأى الشيخ عبد الكريم أن المريض لا يزال فى الفراش ، فزعق فى وجهه :
-      قم يا ولد .. قم يا مضروب خربت بيتى .. مستشفى .. عقاقير .. قم ..
ونهض فتحى على عجل ، وتقدمت نحوه إحسان هانم ، وهى تضحك ، واستوى الشيخ عبد الكريم على قدميه ، وهو يقول :
-      سأمر على مصطفى بك .. وسنتقابل فى المحطة ..
وبارح الغرفة ، وتنفس الجميع الصعداء ..!
وقالت إحسان هانم لحسن ، وهى تعين فتحى على ارتداء ملابسه :
-      إن والدك مرعب ..!
-      إنك ما رأيت شيئا .. آه عليك لو رأيته ، وهو يزأر كالأسد وراء المحاريث ..!
فضحكت حتى دمعت عيناها .. ومشت معهم إلى الباب الخارجى وقبلت فتحى وشدت على يد حسن ، ووقفت ترقب العربة وهى تمضى بهم فى الطريق الطويل بين الأشجار .. وتساتل من عينيها الدمع ولكنها عندما تذكرت وجه الشيخ عبد الكريم الضاحك ، وصوته المرعب ، ابتسمت ومسحت دموعها ..
***
ولم تنقطع رسائل فتحى عن إحسان .. كان يكتب لها فى الأسبوع مرتين ، ويدعوها فى كل رسالة إلى زيارة القرية .. وكانت تجيب على رسائله وتخصص لها جزءا كبيراً من وقتها .. ولم تكن تدرى وهى تملأ الصفحات والصفحات .. أتكتب هذه الرسائل لفتحى أم لحسن ..! وكان هذا يجعلها تخجل من نفسها .. ولكنها كانت تكتب وتكتب ، وتصف له كل ما تشاهده من صور .. وكان فتحى يسألها فى كل رسالة عن السـستر ، ويرجوها أن تقبل شفتيها ..!
وعاد حسن إلى القاهرة وحده ، وترك فتحى فى القرية بين أحضان والديه .. وكان يذكر إحسان وهو فى الريف ، ويقرأ رسائلها بلذة فائقة ، ويتمنى أن يراها فى أول يوم يعود فيه إلى القاهرة ، وكان الشوق يبرح به ، والوجد يرمضه ، ويتمنى لو يطير إليها بجناحين خفاقين .. ولقد مضى معها فى المستشفى شهرًا وبضعة أيام .. فنما الحب فى قلبه على مر الأيام ، وهو لا يكاد يحس به ، فلما أحس به ، وشعر بخفقان قلبه ، تماسك وتجلد ، وحاول أن يخمد جذوة النار التى تشتعل فى قلبه ، إلى حين .. فلما بعد عنها ، عادت النار تشتعل من جديد .. وإذا بما كان يحسبه رمادا ، قد ارتد جذوة تتأجج ..
وفى أول ليلة نزل فيها القاهرة ، مشى فى الطريق ، وهو ينظر إلى وجوه النساء ويتلفت ، فإذا بصر بامرأة فى لباس أبيض .. انتفض وخفق قلبه ..! ونسى أنها لا تلبس ثوب الممرضات فى الطريق .. ولكنه لم يكن قد رأها إلا فى هذا الثوب الجميل ، وفى هذا الثوب أحبها ، وفى هذا الثوب تمنى أن تكون له بجسمها ونفسها ..
وكان يسائل نفسه :
كيف السبيل إلى لقياها ..؟ أيكتب إليها فى المستشفى ..؟ أيزورها فى بيتها ..؟ ربما يعرضها ذلك للأقاويل وهى العذراء الطاهرة الذيل ، فلماذا يلوث اسمها ..؟ إن كل ما يتمناه هو سعادتها ، وقد تكون هذه الزيارة سببا فى شقائها .. ثم هى امرأة .. قد عاشت لنفسها وبنفسها .. فلماذا يقحم نفسه فى جو حياتها ، ويعكر عليها صفو وحدتها ..؟ انه يعرف فى أعماق نفسه لذة الرجل المستفرد .. الرجل الذى يعيش لنفسه وبنفسه ، بعيدا عن المجتمع .. بعيدا عن الخلق عن التماثيل المتحركة ، بعيدا عن هذه الآلات الصماء التى تتحرك بلولب .. بعيدا عن كل هذه الحماقات .. فلماذا لا تكون هى قد شعرت بلذة المرأة المستفردة .. ولا شيء ألذ عندها من وحدتها ، وسكونها إلى نفسها .. لماذا لا تكون هكذا ..؟ ولماذا يكون دخيلا ..؟ 
رد نفسه عن هواها ، وعاد إلى عمله ، وكاد ينسى فى العمل إحسانا ..
***
       وذهب حسن ، فى ليلة من الليالى إلى السينما ، وجلس فى الصف الأخير كعادته .. وكانت السينما خالية تقريبا ، فلم تكن الرواية من الروايات التى تغرى الجمهور بالمشاهدة .. وسر لهذا ، فقد كان يود أن يريح أعصابه من عناء العمل المتواصل طول النهار ، فى جو كهذا ..
       وأطفئت الأنوار ، وبدأ المشهد الأول ، وأرسل حسن ظهره إلى الوراء ، ومد رجليه ، واستراح فى هذه الجلسة ، واستغرق فيما يشاهد من مناظر ، حتى رأى عامل السينما يصوب مصباحه إلى ناحيته فتلفت .. وجاءت سيدة ، وجلست بجواره ، فلم يعرها التفاته .. وكانت قادمة من النور إلى الظلام ، فلم تره عندما جلست فى الصف ، ولما استقر بها المقام ، واستطاعت أن تبصر بعض ما حولها ، حولت وجهها قليلا إلى ناحيته ، فعرفته ، وهتفت :
-      أنت هنا ..!
-      إحسان هانم ..!
وتصافحا مصافحة حارة .. وسألته وهى تتلفت :
-      أأنت وحدك ..؟
-      لا .. معى زوجتى ..
-      إذن سأغير المكان ..
-      إبق كما أنت ، إنها لا تغار .. كغيرها من الزوجات ..!
وضحكا ثم صمتا .. وانتهى المشهد الأول ، وأضيئت الأنوار .. فقربت وجهها الباسم منه وسألته :
-      كيف حال فتحى ..؟ 
- لقد عوفى .. وهو الآن يلعب فى الحقول .. ويسبح فى النيل ويجرى بحماره الصغير طول النهار على الجسر ..
- ونسى السستر ..؟
- وإحسان هانم أيضا ..
- هكذا الرجال دائما ..!
وحول رأسه إلى ناحيتها ، ورأى على ثغرها ابتسامة عذبة ، وفى عينيها ذلك البريق الذى يخطف فى عيون العذارى ، كلما شعرن بالسرور الباطن ..
فقال ، وهو يديم النظر إلى عينيها :
-      أى مصادقة أن نلتقى هكذا ..؟
-      إنه أعجب شيء .. هل تجئ إلى السينما كثيرًا ..؟
-      أبدا ..
-      وكذلك أنا ..
-      كان ولابد أن نتلاقى ، فتلاقينا على هذا النحو السهل .. ولقد بدأ الحظ يبسم لى ..
-      وهل كنت سئ الحظ ..؟
- إلى أقصى حد .. أنا أعمل طول النهار ، وجزءا كبيرًا من الليل كما تعرفين .. ولا أتريض إلا قليلا .. ولا أذهب إلى السينما غير مرة واحدة فى الأسبوع .. وفى هذه المرة أتمنى ، وأنا آخذ التذكرة من العاملة ، أن يكون كرسى بجوار سيدة جميلة ، فأنسى فى جوها العطرى ما لاقيته من نصب طول النهار .. ولكن الحظ كان يخوننى دائما ، والنحس يلازمنى أبدا ، فلا أجلس إلا بجوار أبغض الناس إلى قلبى .. كهل يدخن ويسعل .. أو شمطاء تظل تثرثر طول العرض .. أما الليلة فقد نسيت كل ما كان .. والحظ الذى لازمنى فيها سيمحو كل سيئات الماضى .. وسأقبل يد العاملة التى أعطتنى هذا الكرسى ..
وضحكت .. ورنت إليه وقالت :
-      أنت سعيد إلى هذا الحد ..؟ 
-      وأكثر من ذلك ، وإن حواسى كلها ..
ـ كفى .. دعنا نرى الرواية .. هل أنت من هؤلاء الذين لا يطيب الحديث لهم إلا فى السينما ..؟
-      أجل .. وأنا أجئ إلى السينما لأتحدث ، أو أنام ..!
-      أرجوك .. كفى ..! 
ووضعت يدها على فمه ..
***
وانتهت الرواية ، وخرجا من السينما إلى الطريق ومرا على بعض المطاعم ، فقال لها:
-      ستتعشين معى ..
-      أشكرك ، لم أعتد الأكل فى الطريق ..
-      سنجلس فى الحديقة ، وهى خالية ، وسنستمع للموسيقى ..
-      لقد تأخرت ، وأنا أستيقظ مبكرة كما تعرف ..
-      أرجوك أن تبقى معى قليلا .. أرجوك .. وقد لا نتقابل مرة أخرى ..
ورأت الرجاء والتوسل فى عينيه ، فدخلت معه المطعم ..
***
وأكلت قليلا ، وتحدثت كثيرا ، وشعرت لأول مرة فى حياتها بلذة الحديث على المائدة .. وكانت الموسيقى هادئة شجية ، وحلقت بها الأنغام فى السماوات .. وكان يقبل عليها بوجهه وحسه ، ويستمع إليها أكثر مما يستمع إلى الموسيقى ، كان حديثها فى أذنه أعذب وأطرب ، وزادها ذلك سرورًا ، ونسيت نفسها ، وأغفلت الزمن ..
ولما نهضا عن المائدة ، كان الليل قد انتصف .. ورافقها إلى بيتها ، وودعها عند الباب الخارجى ، وضغط على يدها ..
وصعدت إحسان هانم إلى الطابق الثانى من البيت ، ودخلت غرفتها ، ولم تخلع ملابسها كعادتها .. بل وقفت طويلا أمام المرآة تتأمل محاسنها ، وتفكر ، وتحلم ..
وارتمت على الفراش وهى تبكى .. ولم تكن تدرى لذلك سببا ..
***
       وفى مساء اليوم التالى تقابلا ، وذهبا إلى السينما ، وإلى نفس المطعم ..!  وفى يوم راحتها انطلقا إلى القناطر ، ومضيا النهار معا ، ولما رجعا قضيا جانبا كبيرًا من الليل يستمعان إلى الموسيقى .. وعاشا معا ، وشعرا بنشوة الحب ، ولذة اللقاء بعد الفراق ..
***
       وقال لها ذات ليلة :
-      يجب أن نضع حدا لهذا ..
فجفلت ، ولم تفهم ما يقصده ، ونظرت إليه مرتاعة ..
فنظر إليها طويلاً ، وقال وهو يضحك :
-      لماذا ترتاعين هكذا ..؟ يجب أن تسرى ..
-      أسر من ماذا ..؟
-      لماذا لا نتزوج  ..؟
فضحكت حتى اهتز بها كرسيها ..
فسألها فى غيظ :
-      لماذا تضحكين ..!
فاقتربت منه ، ومسحت بيدها على شعره ، وقالت فى صوت رقيق :
-      إنك طفل يا عزيزى ..!
-      ولا أصلح للزواج ..؟
-      أجل ..
وابتسمت ، وازداد حنقا .. ورأت لونه يتغير ، فخافت أن يتطور حاله ، فأمسكت بيده وقالت :
- يا صغيرى العزيز .. أنت شاب فى مقتبل أيامه .. وأمامك المستقبل البسام .. ولكننى انتهيت .. حتى وإن كنت فى ربيع العمر .. لا تبتئس من كلامى هذا .. أنا امرأة قد خرجت إلى الطريق .. وأنت ريفى ومن أسرة لها تقاليدها .. وصورة والدك لا تزال فى ذهنى .. فهل تحسبه يرضى بهذا الزواج ..؟ وهل سترضى به أنت ، عندما تفيق إلى نفسك ..؟ أنت الآن فى نشوة الحب ، وستصحو يوما ما ، وستندم .. وستشقى بهذا الزواج .. أنا امرأة خرجت من البيت إلى المجتمع .. وفى كل يوم أقابل أطباء .. ومرضى وزوارا من كل جنس ولون .. ومهما تكن طهارتى ، ومهما تكن ثقافتك ، فإنك ستتعذب وتشقى ، من شيء .. ومن لا شيء ..
سنخرج معا إلى الطريق ، وسأقابل أناسا عرفتهم بحكم عملى .. فماذا أقول لك ، وماذا تقول لى ..؟
لا تفكر فى هذا .. ودعنا نعيش كما نحن ، وستعرف يوما ما أن هناك صداقة يمكن أن توجد بين المرأة والرجل ..
فلثم يدها وهو يغمعم :
-      أنت ملاك ..
-      وأنا أحبك أكثر من نفسى ..
وانحنى ليقبل يدها .. فأعطته شفتيها ..
======================== 
نشرت القصة سنة 1944 فى كتاب " الذئاب الجائعة "
========================





















فى القطار


مررت ببخارست وأنا فى طريقى إلى سينايا .. أجمل المدائن الرومانية على الاطلاق ، وعدت إليها وأنا عائد من جورجو على الدانوب .. فبت فيها ليلة واحدة ، فى فندق متواضع يقرب من محطة الشمال ، وقمت مبكرا لأطوف بالمدينة قبل رحيلى عنها .. فمن العسير على المرء أن يمر بباريس الصغرى ، ولا يشاهدها مرة ومرات ، رغم جوها الحار فى الصيف .
ولما أقبل المساء ، كنت فى طريقى إلى المحطة ، لآخذ القطار إلى كونستنزا .. وكنت قد حجزت لى مقعدا ، ولهذا بلغت المحطة قبل قيام القطار بدقائق قليلة ، وكانت معى حقيبة واحدة ، أما باقى الحقائب فقد خلفتها عند صديق لى فى كارمن سيلفيا .. ولما أخذت مكانى فى القطار ، راعنى أن صاحب المكان المقابل لى يملأ الديوان بحقيبة ضخمة مكتظة .. فتصورته تاجرا من تجار الفراء ، أو مهراجا فى طريقه إلى الهند .
وعندما دق جرس القطار مؤذنا بالرحيل .. كان خادم العربة يفتح الديوان ، وينحنى مفسحا الطريق لسيدة فى لباس أسود ، وقبعة طويلة تكاد تحجب عنى بريق عينيها النجلاوين .. وملت إلى الوراء وشغلت نفسى بالنظر من النافذة إلى المحطة الجميلة ، وهى غاصة بالمسافرين إلى مختلف الجهات .. وإلى حركة القطارات فيها .. وعندما تحولت عن النافذة ، كانت السيدة التى ترافقنى فى السفر ، مضطجعة فى ركن من الديوان ، وقد فتحت كتابا .. ورفعت بصرى إليها ، ورأيت وجهها الدقيق وملامحها الساكنة ، والسواد الشديد الذى يبدو من عينيها ، وأدركت أنها رومانية أو بلغارية أو تركية ، فهذا الوجه بملامحه وسماته الشرقية ، لاتراه إلا فى هاتيك البلاد ..
وتحرك القطار ، وخلف وراءه تلك المدينة الساحرة تتلألأ بالنور ، وتدفق بالحياة .. وخفق قلبى .. فأنا أحمل لهذه المدينة فى أعماق نفسى أطيب الذكر .. وعلى الرغم من أننى مررت عليها أكثر من مرة ، ومكثت فيها أكثر من عام ، فما من مرة زرتها إلا وجدت فيها سحرا جديدا ، ولونا جديدا من ألوان الحياة ، فيه كل ما يسر النفس ويثلج الفؤاد ..
ولقد زرتها فى أول مرة ، وأنا فى حالة موئسة من التعاسة وخيبة الأمل ، فما رأيتها ، ورأيت ما فيها من جمال .. حتى غمرنى السرور ، وتفتحت نفسى لمباهج الحياة من جديد .. ولهذا شعرت ، عندما تحرك القطار ، بالأسى الذى يغمر النفس ، ويكرب الصدر ، ويبعث الحزن فى الفؤاد .. هل أعود إلى هذه البلاد ، وهذه المدينة ؟ .. هذا ما أرجوه من الله ، وأتمناه لنفسى ..
ملت عن النافذة ، وأغلقت عينى .. هل غفوت ؟ .. لا أدرى .. والنوم لايليق فى هذه الساعة ، وفى رفقة سيدة جميلة ..
أرسلت بصرى إلى السماء الزرقاء .. والقطار ينطلق كالسهم فى وادى الدانوب ، وقد سكنت حركة المسافرين ، وانقطعت أصواتهم .. ونظرت إلى هذه السيدة من جديد ، وبدا لى أنها نظرت إلىّ ، وملأت عينيها منى ، وأنا فى سباتى .. وكونت لنفسها فكرة عنى .. فكرة ما .. فما أسد نظر المرأة .. وعندما جاء مفتش التذاكر ، وحدثنى بالرومانية وجاوبته بالفرنسية التى لايعرفها ، ابتسمت السيدة ابتسامة خفيفة ولكنها لم تحاول انقاذى أو انقاذه ! فتركتنا فى ارتباكنا .. وانسحب الرجل ، وقد رأى أن ذلك خير ما يعمله ..! ولا زلت إلى هذه الساعة أجهل ما كان يريده .
وأشعلت المصباح الكهربائى الذى بجوارى ، وفتحت كتابا معى ، وكنت أرفع نظرى عن الكتاب إلى رفيقتى فى السفر ، بين حين وحين ..
وكان النور الهادىء قد زاد وجهها تألقا وفتنة .. وجعلنى أنجذب بكليتى نحوها .. يا الله .. إن حياتى كلها أسفار .. ولكم رأيت وجوه .. نساء من كل جنس ولون .. ولكن لم أشاهد وجها كهذا الوجه ، فى سكون ملامحه ، وروعة حسنه .. هل أبدأ بالحديث ؟ .. لا .. إن تجاربى علمتنى غير ذلك .. فالرجل الذى يفاجىء المرأة بالحديث ، دون مناسبة ، يسقط فى نظرها ، ويجعلها تدل عليه وتزهو .. ومع كل ، فما كنت رجل أحلام .. فما الذى أوده من مسافرة فى طريقها إلى زوجها أو بيتها أو مصيفها .. خمس ساعات فى القطار ، ثم يمضى كل لوجهه .. وما أكثر الوجوه التى نلتقى بها عرضا ، ثم تفترق إلى الأبد .. هل يمكن أن أكون أهدأ أعصابا ، وأنعم بالا ، لو كنت مسافرا فى الديوان وحدى ؟ .. ربما .. فأنا وحيد على الباخرة .. ووحيد فى القطار .. ووحيد فى الفندق .. بيد أن ذكريات قلبى جميعا تنشأ من هذه الوحدة .. وهل يمكن أن يظل رجل وامرأة فى سفر طويل كهذا دون أن يتحادثا ؟ّ..
تراجعت إلى الوراء ، وطويت الكتاب .. وكانت سحب الصيف الخفيفة قد انتشرت فى رقعة السماء ، وبدا القمر من خلالها يتسحب ، ووادى الدانوب مخضر بالزرع ، يانع بالنبت ، يزهو ويميد !
كانت الطبيعة سافرة فى أروع صورها .. وكان القطار يطوى المدائن الصغيرة ، والقرى المزهرة على ضفاف النهر ، بمنازلها البيضاء الصغيرة ، وسقوفها المحدودبة ، وكنت أرى على ضوء القمر ، عند سفوح بعض التلال البعيدة ، قطعانا من البقر وحولها الفرسان بملابسهم الوطنية الزاهية .. ثم يمضى القطار ويطوى هذه المناظر طيا ! انثنيت عن النافذة وأنا اتنهد .. أسفت على هذه المناظر الجميلة التى أطويها من صفحة حياتى ، وقد لا أراها مرة أخرى ، وقد تنمحى صورتها من ذهنى .. من يدرى ؟..
كانت رفيقتى فى السفر قد استراحت فى ركن من العربة ، وأغلقت عينيها ..
رأيت هذه الأهداب الوطف ، تسبل على هاتين العينين الساجيتين .. وهذا الأنف الدقيق ، يتنفس فى هدوء .. وهذا الشعر الغزير الفحم ينسدل على الجبين .. وهذا الجسم الممشوق يسترخى ، ويستقبل نسمات المساء اللينة فى كسل ظاهر .. كانت قد تركت جسمها يتمدد على حريته ، وحد طاقته .. دون أن تقيد نفسها بوجودى .. وكان القمر كلما تخلص من السحاب ، أراق ضوءه الفضى على وجهها ، فضرج وجناته ، وعلى شعرها فذهب حواشيه !
وخفت سرعة القطار .. وأخذت السيدة تتحرك .. حركت ساقيها ، ومالت بجسمها إلى الخلف ، ووقف القطار على احدى المحطات فسألتنى :
ـ أهذه ت ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. لا أعرف .. أنا غريب عن هذه البلاد
وكأنها أدركت حالها فزمت شفتيها .. ربما كانت تحلم ، وفتحت عينيها ، وهى تحسبنى زوجها أو رفيقها .. فلما أدركت أنها فى القطار وفى رفقة رجل غريب ، عادت إلى صمتها .
وكان القطار قد تحرك ، وعاد السهوم إلى وجهها ، فقلت وقد أردت أن أزيل عن ذهنها ما كانت تفكر فيه :
ـ كل المحطات صغيرة ومتشابهة ..
فمدت رأسها إلى الأمام قليلا ، وقالت :
ـ أجل .. ولكنها جميلة ..
ثم سألت وهى تشير إلى النافذة :
ـ هل عشت فى بعض هذه القرى الصغيرة على الدانوب ؟.. انها آية من آيات الجمال .. لقد مضيت هناك شهرا كاملا ..
ـ لم أحظ بهذا النعيم بعد .. ولكننى أفكر فى ذلك ..
ـ هل ستعود إلى هذه البلاد مرة أخرى ؟..
ـ بالطبع .. كلما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ـ وهل أنت فى طريقك إلى الآستانة ؟..
ـ إلى أبعد من ذلك ..
ـ إلى أين .. ؟
ـ إلى القاهرة ..
ـ فكرت فى هذا ..
ـ كيف ؟..
ـ من هناك يجىء أمثالك من الرجال .. صمت .. وحزن .. وهدوء الصحراء ..
ـ هذا حق ..
ـ هل أنت ذاهبة إلى كونستنزا ؟..
ـ أجل .. لبضعة أيام .. اعتدت على ذلك فى الصيف من كل عام ..
ـ وقادمة من بودابست ؟..
ـ أجل من بودابست ..
وأضافت :
ـ كنت أشاهد معرضها للصور ..
ونظرت إليها نظرة طويلة !
فسألتنى :
ـ لماذا تنظر إلىّ هكذا ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. لا أستطيع أن أجيب .. فقد يكون فى جوابى بعض القحة ..
فأخذت تضحك ولانت ملامح وجهها جدا ، ورأيت على وجهها شعور الإيناس ، وفى عينيها السرور المحض
ـ هل شاهدت الشرق ..؟
ـ أبدا .. أود ذلك ..
ـ هل قرأت كثيرا عن الشرق ..؟
ـ أجل .. قرأت كثيرا .. قرأت تاريخ العرب ..
ـ كان العرب عظماء فى حياتهم ومماتهم .. وقد حرمنا فى كثير من الأوقات حتى من لذة الذكرى .. وفى هذا بعض الشجن ..
ـ هذا صحيح ..
ـ هل يضايقك تيار الهواء ..؟
ـ أبدا دعنى أملأ رئتى من نسيم الليل ..
ـ إن السفر عندى هو خير متع المسافر ..
ـ هل سافرت كثيرا ..؟
ـ رأيت نصف العالم تقريبا ..
ـ وتود أن ترى نصفه الآخر ..؟
ـ لا .. لا .. لقد اكتفيت بما رأيت .. نفس الوجوه .. نفس المشاعر .. ونفس الحماقات .. فى كل مكان .. واعذرينى إذا قلت ونفس النساء أيضا ..
ـ تكلم كما تحب ..!
ـ هل قرأت شيئا جديدا فى التاريخ ..؟
ـ أبدا .. كل شىء يتكرر ، فقط تتضخم الصور ..
ـ آسف لقد أثقلت عليك .. هل تشعرين بجوع ! هل تسمحين بأن تتناولى معى قليلا من الجعة ..؟
ـ أشكرك لا أشعر بجوع ..!
ـ ولكنك عطشى .. ولن أتركك وحدك .. لابد من مرافقتى !
فضحكت ، ونهضت معى إلى عربة الطعام .. وكانت خالية إلا من بعض المسافرين ، تناثروا فى أركانها ..
ـ لن تشاهد فى هذه العربات أناسا بلباس السهرة ، كما تشاهد فى بعض البلاد الأخرى .. ليس من بين هؤلاء الناس من يضيع عمره فى حياة متكلفة بغيضة .. كلها مظاهر كاذبة !
وعلى الرغم من أننى كنت قد تعشيت فى بخارست ، فإنى أكلت .. وأكلت كثيرا .. وأكلت السيدة أيضا ، وشربت من الجعة .. أكثر مما شربت ! وتضرجت وجنتاها ، وازداد احمرار شفتيها ..
ولما عدنا إلى مكاننا من الديوان كنا أصدقاء ..
***
وبلغ القطار كونستنزا مع الصبح ، وكنت أود أن أنزل فيها ، ولكن السيدة أشارت علىّ بالنزول فى فندق هادىء فى ايفوريا فقبلت مشورتها .. وبقينا فى العربة التى ستلحق بقطار آخر يسافر إلى ايفوريا بعد دقائق قليلة ..
وبلغنا ايفوريا والشمس ترسل أول أشعتها الصفراء على تلك المدينة الصغيرة المتألقة على ساحل البحر .. ونزلنا فى الفندق ، وكانت غرفتى مجاورة لغرفتها ..
ونمت واستيقظت قبل الظهر .. ووجدتها جالسة فى شرفة الفندق الكبيرة ..
وابتدرتها بسؤالى :
ـ أنمت ..؟
ـ بعض الوقت .. فأنا لا أحب النوم فى النهار مطلقا ..
ونهضنا لنتغدى على مائدة صغيرة تطل على البحر .. وليس فى فنادق الدنيا جمعاء ، فندق يماثل هذا الفندق فى جماله وروعته .. فهو يقوم على هضبة عالية ، ويطل من جهاته الثلاث على البحر ، وتشرف جهته الرابعة على بروج ايفوريا الخضراء ، وحدائقها الناضرة ، فلا تطل منه فى أى ساعة من ساعات النهار إلا على أبدع منظر .. فإذا ما أسدل الليل أستاره ، خلته سفينة ضخمة عائمة فى المحيط ، وقد أحاط بها الجمال من كل جانب ..
وفى الأصيل نزلنا من الفندق إلى سيف البحر .. وكانت الشمس ترقص على صفحة الماء .. وبدت الطبيعة فى أحسن حللها ، وأبدع مناظرها ..
ـ هل تستحمين ..؟
فرفعت إلىّ وجها لونه الخفر ، وقالت :
ـ كنت أحب ذلك فى طفولتى .. أما الآن فأنا أرهب البحر .. أحب أن أشاهده من بعيد ..
ـ ولكنك ستستحمين يوما ما ..
ـ ربما .. ولكن ليس اليوم ..
وانحدرت الشمس ، وغاب قرصها فى الماء .. وبدت الزوارق الشراعية الصغيرة تتجه نحو الشاطىء .. وأخذ المستحمون يخرجون من البحر .. وغصت طرق ايفوريا بهم .. واتخذوا طريقهم إلى الفيلات الصغيرة المتناثرة فى رقعة الهضبة ..
ولما هبط الظلام ، صعدت مع السيدة إلى الفندق ..
***
كان الليل فى هزيعه الأول ، والريح رخاء والهواء منعشا .. وكان الظلام سادلا أستاره ، والقمر لم يطلع بعد .. وكان البحر على مدى أذرع قليلة منا ، هادىء الصفحة ، مصقول الأديم ..
وجلست بجوارها على كرسى طويل ، فى الشرفة الكبيرة التى تدور بالجوانب الثلاثة المشرفة على البحر .. وكان هناك بعض النزلاء جالسين عن قرب منا .. ولكنا لم نكن نسمع لهم حسا .. كان كل شىء يبعث على السكون والتأمل ، ويفتح آفاق النفس .. ونظرت إليها فإذا نظرها عالق بالبحر .. وقد علاها بعض السهوم .. لعلها كانت تسترجع الساعات التى دفعت بها إلى هذا المكان دفعا .. لقد مضى كل شىء سريعا ، ولم يستطع واحد منا أن يفترق عن الآخر ..
لقد كانت جالسة لأول مرة ، فى أول فندق نزلنا فيه بعد رحلة القطار ، وكأنها تجالس انسانا عرفته منذ فجر حياتها .. لقد أصبحنا بين عشية وضحاها عاشقين متيمين ..
وتعشينا عشاء خفيفا .. وشربت كثيرا ، وتمشينا قليلا فى الشرفة .. ثم سرت معها إلى باب غرفتها .. وشددت على يدها فى حرارة ..
***
واضطجعت على السرير ، ونظرى مسدد إلى الباب الذى يفصل غرفتى عن غرفتها .. كان هذا الباب موصدا .. وكانت غرفتها لاتزال مضيئة ، فهى لم تنم بعد .. ولعلها تطالع قبل نومها .. تناولت مجلة مصورة ، وأخذت أقلب البصر فيها .. ولكن نظرى كان يعود بين الفينة والفينة ، ويستقر على الباب .. وطويت الصحيفة ، ووضعت يدى على رأسى .. ونظرت إلى الساعة فى يدى .. لقد أزفت الساعة الأولى بعد منتصف الليل .. فهل يمكن أن تظل ساهرة هكذا إلى الصباح ؟! ما الذى تفكر فيه الآن ؟ هل كانت حماقة أن أطلب لكل واحد منا غرفة مستقلة ؟! ..
ونزلت من فوق السرير ، وأخذت أتمشى فى أرض الغرفة ، وأنا حافى القدمين ! وكنت أمر على الباب وأكاد التصق به .. ووضعت أذنى عليه وتسمعت .. لم أسمع حسا ولا حركة ، انها مستغرقة فى النوم .. ودارت يدى حول الباب فى الظلام .. وكنت قد أطفأت النور .. فوجدت مزلاجا من ناحيتى فأزحته .. وعالجت الأكرة فانفرج الباب قليلا .. فأعدت اغلاقه بهدوء .. وتراجعت إلى الوراء ، وقلبى يزداد خفقاته ، وتشتد ضرباته .. واتجهت إلى السرير .. هل أنام ؟.. وهلا تعد حماقة منى أن أدع هذا الجمال يفلت من يدى .. وربما إلى الأبد !..
ومشيت إلى النافذة ، والليل قد نشر غياهبه ، والبحر من تحتى يرغى ويزبد .. وعوت الرياح .. وتحركت الستر على النوافذ .. وتطلعت إلى السماء .. إلى أسرار الليل .. وأسرار النجوم البراقة ، فى الليل الموحش ، وأخذت أتأمل وأفكر .. هل أظل هكذا مضعضع الحواس ، مضطرب القلب ، قلق النفس ، حائر الفؤاد ؟.. وهى على أذرع قليلة منى ، وفى ملك يدى !.. وما من قوة ستجعلها ترفض .. وما من شىء سيجعلها تقول لا .. لماذا لاتفكر هى فيما أفكر فيه الآن .. ما أشقى الإنسان ، وما أشد عذابه !..
تطلعت إلى السماء .. ونظرت إلى الماء .. وكان الظلام ناشرا أستاره .. وكانت هناك سفن تعبر البحر الأسود .. وأنوارها تتراقص على الماء .. وكان الخليج الذى يقوم عليه الفندق قد اشتد موجه وصفق .. وعادت الطبيعة تزمجر كأننا فى الشتاء .. ولذ لى المنظر وأخذ بلبى ومجامع قلبى .. فأنا أحب السكون فى كل شىء إلا فى الطبيعة ، التى لا تبدو على فتنتها إلا وهى صاخبة ثائرة ..
ولقد انثنيت عن النافذة ، وأنا أفكر فى هذه الفتاة .. وعدت إلى السرير ، وأنا لا أزال محيرا ملتاعا .. وبعد طول عذاب وتفكير ، رددت نفسى عن غيها ، وأخذنى النعاس ..
***
ونهضت من فراشى قبل أن تطلع الشمس .. وجاءت لى الوصيفة بالقهوة ، وحييتها تحية الصباح ، وسألتها :
ـ هل صحت الماظ هانم ..؟
ـ صحت ..! وهل نامت حتى تصحو ؟.. إنها ساهرة طول الليل ترسم ..
ـ ترسم ..؟
ـ أجل .. تعال إلى هنا وانظر ..
وتقدمت نحو النافذة المطلة على البحر .. ورأيت الماظ هانم ، جالسة ومكبة على لوحة كبيرة ، وكان ظهرها إلينا ووجهها إلى الخليج .. وكانت ترسم فى استغراق وسكون .. وترفع بصرها ، ثم ترتد به إلى اللوحة ، وفرشاتها تتحرك بين أناملها الرقيقة .. ما أجملها فى جلستها هذه .. وما أروع ما يحيط بها من مناظر ..
لقد أدركت الآن لماذا كانت ساهرة طول الليل ، ولماذا تسافر ومعها هذه الحقيبة الضخمة .. إنها ترسم فى كل مكان تنزل فيه ، وحقيبتها ملآى بمثل هذه اللوحات .. قد تكون فقيرة ووحيدة تعيش من هذا العمل ، ولكنها غنية بفنها ..
نقرت على زجاج النافذة فسمعتنى ، وتلفتت فرأتنى .. فاحمر وجهها قليلا وقالت :
ـ صحوت ..؟
ـ منذ مدة .. ولى ساعة وأنا أنظر إليك من هذا المكان ..
ـ ولم أحس بك !..
ـ أجل ..
ـ تلك مصيبة الفن على الحواس .. تعال وانظر .. إنى أرسمك ..!
وذهبت إليها ، وجلست بجوارها .. وكانت ترسم طلوع الفجر على الخليج ، ومن ورائه الربى والمروج .. وكان المنظر فى بدايته ، ولكنه كان يشعر الناظر ببراعة اليد التى رسمته ..
فقلت لها ، وأنا أنظر إلى أناملها الدقيقة :
ـ أهنئك .. إن هذا رائع ..
ـ اشكرك .. الروعة فى هذا الجمال الذى تراه حولك ..
ـ لابد أنك رسمت كثيرا من مناظر البسفور ، ما دمت شغوفة بجمال الطبيعة إلى هذا الحد ..
ـ البسفور .. هذا سحر آخر .. ولقد عشت بين رياضه .. وأنا أرسم مناظره فى كل مكان ، لأنها منقوشة فى ذاكرتى .. وقد بعت لوحتين فى بودابست أثناء رحلتى هذه .. وسأريك بعض ما بقى فى الحقيبة ..
ـ إن من لايرى البسفور لايرى الجنة ..
ـ هذا أحسن اطراء سمعته ..
ـ أنا أقول الحقيقة .. بل وأقل من الحقيقة ، وما رأيت منظرا يأخذ بلب المسافر كالبسفور .. وأتمنى على الله أن ينتهى بى المطاف إلى هناك .. وهناك أقيم إلى نهاية حياتى ، وهناك أرقد .. وليكن آخر منظر أراه هو قباب أيا صوفيا ، وهى تدور مع الشمس ..
ـ ها هى الشمس قد طلعت .. فاذهب إلى الشاطىء قبل أن يزدحم بالمصيفين .. وعندما تعود ، سأكون قد ارتديت ملابس الخروج ، وسنذهب إلى كونستنزا ..
ـ ألا تنزلين معى إلى البحر ..؟
ـ ليس الآن .. أنا متعبة جدا .. وسأستحم معك فى الأصيل ..
وقبلت يدها ونزلت إلى الشاطىء ..
***
وذهبنا إلى كونستنزا ، ورجعنا إلى الفندق بعد الظهر فتغدينا .. وتركتها لتستريح ، فقد كان النوم يداعب أجفانها .. وأيقظتها قبل الغروب بقليل .. وكانت لاتزال تشعر بتعب ، ولم تأخذ قسطها من النوم .. ونزلنا إلى البحر ، وطلعنا منه بعد أن هبط الغسق ..
ولاحظت على العشاء أن وجهها شاحب قليلا .. فأمسكت بيدها ، فإذا بها شديدة البرودة .. وجلسنا بعد العشاء نستمع للموسيقى ، وكانت هناك فرقة رباعية من فينا .. وكانت تستمع فى سكون ، ووجهها لايزال شاحبا ، ومن عينيها يبدو التعب الشديد ، فقلت لها :
ـ يجب أن تستريحى يا الماظ ..
فحولت وجهها إلىّ ، وقالت فى هدوء :
ـ أجل يا مراد .. فأنا أشعر ببرودة شديدة ..
واعتمدت على ساعدى ، ومشينا إلى غرفتها .. وفى منتصف الطريق لم تقو على السير .. وسقطت بين ذراعى ، وحملتها إلى سريرها .. وجاءت إلزا ورفيقتها لندا ، الوصيفتان فى هذا الجناح من الفندق .. وتركتهما معها ليغيرا ملابسها .. وعدت إليها بعد قليل .. وطلبت من إلزا أن تتصل بأى طبيب فى المدينة .. فسمعتنى ألماظ وأشارت إلىّ بيدها ، فاقتربت منها ، ووضعت وجهى على الفراش .. وهمست فى صوت متقطع :
ـ إننى بخير .. وقد مرت النوبة .. بسلام ..
وبقيت بجوارها ، وأنا شاعر بتعاسة مرة .. فأنا الذى حببت لها الاستحمام فى تلك الساعة .. وهى منهوكة القوى ، بعد سهر الليل بطوله فأثر ذلك على قلبها ..
وظلت ساهرة .. وبعد منتصف الليل نامت .. وأخذت أنظر إلى وجهها وهى تتنفس فى هدوء .. وإلى جسمها وقد لف فى الأغطية ..
فى الليلة الماضية .. تحت تأثير الخمر وتعب الأعصاب من السفر الطويل .. وتحت تأثير كل ما طاف فى رأسى من فكر .. ودار من هواجس .. اشتهيت هذا الجسم .. وتمنيت أن يكون لى ساعة من الزمان .. وهو الآن فى متناول يدى .. وأراه بجميع تقاطيعه وكل محاسنة .. وأضع يدى على صدرها ، وألمس ذراعها العارية ، وأنا أضم إليها الأغطية ، وأعطيها بعض المقويات .. ومع كل ذلك فشعورى الليلة غير شعورى بالأمس .. فقد سكنت ثورة العاصفة التى كانت تشتعل فى جسمى فى الليلة الماضية .. ولازمنى الليلة إحساس جديد ، فيه روحانية جارفة .. ألأنها مريضة ؟.. ألأنى أدركت سمو نفسها ؟.. ألأن صلتى بها قد توثقت واشتدت عن ذى قبل ؟ لم أكن أدرى ..
***
فتحت عينيها فى الثلث الأخير من الليل ، فرأت أنى ما زلت ساهرا ..
فقالت وهى ترتفع بجسمها قليلا :
ـ ألا تزال ساهرا ؟.. يكفيك إلى هذه الساعة ، واسترح الآن ..
ـ لن أدعك وحدك ..
ـ لن تتركنى وحدى ؟!..
ـ أبدا ..
ـ أبدا .. ؟
وأخذت أمسح بيدى على جبينها ، وألمس شعرها ، فنظرت إلىّ نظرة متكسرة فيها كل إحساسات قلبها ، وقالت وهى تحرك أناملها :
ـ أعطنى هذا المشط .. وافتح الدرج الذى تحته ، وستجد صورة مغلفة فهاتها ..
وفتحت الدرج ، وتناولت المشط .. ورجلت شعرها .. وفضت غلاف الصورة وهى تبتسم .. كانت صورتى وأنا فى القطار ..
نظرت إلى الصورة ، وأغمضت عينى .. شعرت بسعادة لاحد لها ، وخيل إلىّ أننى أسبح فى طبقات الأثير ..
وسمعتها تقول :
ـ هل استطعت أن أرسم عينيك .. وهما تلتهمان الكتاب ، وتغفلان عنى ..!
وضحكت ، وتناولت يدها .. فغمغمت :
ـ لن أدعك تتعذب ليلة أخرى .. فقد أحسست بك أمس .. وأنت تدور فى غرفتك !..
وشعرت بالخجل ، فنظرت إلىّ فى رقة وأضافت :
وسنذهب فى الصباح إلى كارمن سلفيا .. وسنعيش هناك إلى نهاية الصيف .. وسأطلق الرسم ما دمت معك .. وسنرجع إلى استانبول .. وسترى البسفور مرة أخرى وأنت معى .. وسنعيش فى هذا الفردوس إلى نهاية حياتنا ..
================================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الذئاب الجائعة " فى عام1944
================================
فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

الذئاب الجائعة       ..............................   2
ساعات الهول        .............................    8
الدراجة      .........         ..... ............... 14
النفوس المعذبة             ............. .........   23
رجل مريض     ............     .....  ...... .    29
فى القرية           .............................    33
حياة رجل        ................................   53
قلب عذراء   .................       .....   ...    68
فى القطار   ..................  ............  ....  88